
في لغة القدامى أنا في منزلة بين المنزلتين، وفي لغة المحدثين أنا بين نارين. وأوضح من التعبيرين أيّ في حيرة من أمري بين قلبي وعقلي. فهذا هو النار” الباردة ” الهادئة، وذاك هو النار الحارقة المدمّرة. ومثل هذا الموقف عشناه في سنّ المراهقة وعبّرنا عنه في التراسل الجميل. وأنا أعيشه اليوم في الشأن العربي، وبالذات في أوضاع غزّة وسوريا بعد العراق ثمّ في ليبيا كما سبق في أفغانستان وكلّنا في الهمّ شرق منذ زمان، وعلى الأقرب منذ 11 سبتمبر وظهور داعش بعد طالبان وانتشار الإسلام السياسي بالعنف والفساد كما عشناه طيلة عشريّة الفوضى والخراب. وأنا أعيشه الساعة وكلّ ساعة متواصلا مع لوس أنجلس فيما أصاب ولاية كاليفورنيا من الحرائق المشهودة غير المسبوقة، أو على الأقلّ غير المألوفة.
قلبي يتشمّت مغلوبا بالعاطفة على معنى أن يذوق انصار الصهاينة قليلا من معاناة الفلسطينيّين وكأنّ الله قد استجاب لدعاء الأرامل واليتامى بالانتقام السريع القويّ على غرار أقوام محقوا من قبل بالزلزلة والريح العاتية. ألسنا نقول إنّ الله في الوجود، وأنّه يمهل ولا يهمل ، وأنّه العادل الآخذ بحقّ الضعيف المضطهد من الظالم المستبدّ؟
وسرعان ما يتدخّل عقلي لكبح العاطفة الجامحة محذّرا من الظلم إذا حكمتُ وعمّمتُ. ذلك أنّه في نفس المكان نجد بين الأمريكان ساكنا يدعو إلى إبادة العرب مجاورا لمن يدعو إلى نصرة غزّة، وأنّه كذلك قد شبّت حرائق وحدثت زلازل في أغادير بالمغرب وفي الشلف بالجزائر وفي تركيا وإيران وفاضت الأمطار والأنهار في مكّة وجدّة، وما الناس في تلك المدن والأقطار بكفّار، ولم تصب إسرائيل بإعصار فيه نار. إنّها الأرض يتصرّف فيها خالقها كما يشاء، وإنّها الطبيعة تنذر العالم عسى أن يستيقظ في القلوب والعقول ضمير الإنسانيّة فيسترجع القيم والأخلاق التي قضى عليها أو كاد التقدّم المادّي خاصّة في سباق التسلّح واستنزاف البيئة والتدخّل في المناخ.
ستترك تلك الكوارث آثارها. وستجد حرائق “مدينة الملائكة” هبّة من أهل الجود والنفط لتعويض الخسائر. وستنعكس الأدخنة والنيران على إنتاج مبدعيها في السينما وسائر الفنون، وبالأخصّ في الرواية والسيرة الذاتيّة وتوابعها من المذكّرات واليوميّات في صور متعدّدة ومتفاوتة لمأساة واحدة فاجأت الجميع بسرعة وتواصلت رغم الجميع بقوّة. ولن يمرّ الصريم العظيم مرّ الحوادث العادية التي سرعان ما يطويها الزمن كوفاة رئيس دامت جنازته عشرة إيّام بمراسم متكرّرة من جورجيا إلى واشنطن. أقصد جيمى كارتر عرّاب اتّفاقيّة كامب دافيد (مخيّم أو منتجع داوود) بين أنور السادات ومناحيم بيغين في نطاق جهوده لإقرار السلام كرئيس أوّلا وكمؤسّس مركز للغرض أخيرًا متوّجا بجائزة نوبل مع الآخرين .وإذ أكتب هذا فلأنّي لا استطيع أن لا (أو ألاّ) أكون شاهدا مع غيري ومن وجهة نظري على عصري في أعظم المحن وقد كتبت عمّا أقلّ. وإذ كتبته فأملي أن يصل بهذا الشعور العاقل ولو متأخّرا إلى الضفّة الأخرى ليكتشف أخي في البشريّة أنّه في الجانب الآخر من الكرة الأرضيّة، حيث يتقابل ليله مع نهاري ونهاره مع ليلي، ثمّة قلوب تحسّ وعقول تميّز وأقلام تكتب. وكلّنا وإن باعدت بيننا المسافات وفرّقت بيننا المعتقدات واشتعلت بيننا الحروب، كلّنا في الغرب والشرق خلق أو عيال الله في الأرض. نسأله اللّطف بعباده ثقة في أنّ رحمته أوسع من نقمته. والسلام على من عدل بهداية ربّه بين عقله وقلبه فانطفأت النيران.