
تبدأ المسرحية بنقرات قصيرة ومتئدةٍ على آلة القانون ثم على البيانو تصوّر قلق الانتظار، انتظارِ المركب الذي يحمل الأميرَ العائدَ من توسكانا الإيطالية بعد خمس سنوات قضاها في المنفى. ومن على شواطئ عكا يصيح أحد الأهالي معلنا وصول الأمير فخر الدين. وتنطلق الافتتاحية الموسيقية ذاتُ المسارات اللحنية الشرقية وبأسلوب رحباني واضح بمصاحبةٍ آلية بسيطة تُرافقها على المسرح تشكيلات حركية من إخراج صبري الشريف تُصوّر وصولَ الأميرِ وحاشيته واستعدادَ الأهالي لاستقبالهم.
والمقدمة الموسيقية لا تقتفي أثر الأوبرا الملحمية الغربية في شيء: لا في مساراتها اللحنية ولا في الكتابة الهارمونية أو الأوركسترالية، ربما كان ذلك لترسيخ الانتساب إلى محلية مطلقة تخص لبنان وحده. فملحمة فخر الدين حكاية لبنانية محضة تتعلق بتاريخه وأرضه وكان لا بد أن تتميز بعناصر موسيقية خاصة.
تعتمد قصة المسرحية على أحداث حقيقية جرت في أوائل القرن السابع عشر. العام هو 1618، الأهالي يستقبلون الأميرَ وحاشيتَه معبرين عن فرحتهم بعودته بعد المصائب التي حلّت بهم أثناء غيابه فيحفّزهم على تعمير لبنان بالعمل في كل المجالات ويعدهم بمُستقبَل زاهر.
من خصائص المسرحية الرحبانية أنها تجمع النقيضين: التراجيدي والكوميدي فهي تُبكي وتُصيب في الصميم أحيانا، وتحرّك العواطف وتلهب الأحاسيس في آن.
شأنُ كل الملاحم الشعبية يأخذ الجانب الاحتفالي نصيبا هاما في التعبير عن الفرحة ويكون ذلك دوما عن طريق الغناء والرقص في القوالب التقليدية وخاصة منها الدبكة. وفي كل المسرحيات الرحبانية يحتل الموروث الفلكلوري مكانةَ وظيفيةً هامة في مثل هذه المشاهد الجماعية حتى يُخيّل للسامع أن ما يُنشد في هذه المسرحية يُسمع في أخرى.
يتأثر فخر الدين بكلام عطر الليل ويَعلم أنها من بلدة أنطلياس وأن أباها حارسٌ في جيشه فيتذكر كيف أن أمَّه خبأته بعد تيتّمه وهو في سن السادسة في بلدة بلّونة قرب أنطلياس خشية أن يفتِكَ به الوزير العثماني. ولما بلغ الثامنةَ عشرة من عمْرهِ عاد ليتسلم مقاليد الإمارة من خاله.

شخصيةُ عطر الليل التي تمثّلها السيدة فيروز هي شخصية من نسج خيال المؤلفَين وليس لها وجود فعلي في التاريخ، ابتدعها الرحباني لتلعب دورَ الضميرِ الشعبي تنطِق بلسان الناس وتُحب عنهم وتخاف عنهم وتُحس وتشعُر بالمخاطر التي تهدد وطنَها وأميرَها. ثم يجب أن لا ننسى في الأخير أن التاريخ ليس إلا إطارا مرجعيا لإثارة أفكارَ وأحاسيس وأنّ العملَ الفني لا يتقيّد بالأحداث ولا يغيرها بل يستوحي منها للعبرة والمثل.
استقبال شعبي رائع يقدم فيه سكان المناطق الهدايا للأمير لكن ما يسترعي انتباهَه هو هدية الفتاة “عطر الليل” التي جاءت لتقدم له سيفا ذهبيا وتغني له. فيتأثر فخر الدين بصوتها ويطلب منها أن تبقى إلى جانبه وأن تستمر بالغناء لتجمع الناس على محبة لبنان من خلال أغانيها.
أما شخصية فخر الدين فقد صُممت منذ البداية لتكون نموذجا للبطل الشعبي والقائد المحبوب مثلما تقتضيه تقنيات الكتابة الملحمية. فنراه يوزع المهامَ على أعوانه ويتعاهد معهم على الوفاء ونبذ الخيانة لتحقيق الرخاء لبلدهم.
(يتبع)