
بين نكران الذات ونكران الجميل فرق ما بين الخير والشرّ وفرق ما بين البشر والحجر. والكلمة واحدة والفرق بالإضافة أي بالمضاف إليه مثل عديد العبارات العربيّة. فأمّا الأوّل فهو من المكارم في علاقة بالوطنيّة، وأمّا الثاني فهو من الرذائل في علاقة بالأنانيّة. والأمثلة متنوّعة في المجتمع بدليل أحاديث الناس عن عجائب الفعال وغرائب الأعمال حتّى في خير أمّة أخرجت للناس. ولكن الأنكى والأخطر أن تتكاثر الأمثال في طبقة المثقّفين وأشباه المثقّفين، أي في نخبة المجتمع المنظور إليها بالعين الكبيرة تقديرا للأدب والفنّ وسائر مجالات الإبداع ممّا ينتظر منه المثل الأعلى والقدوة الحسنة. وقد طال بي العمر حتّى عرفت بالخُلطة والتجربة الكثير من هؤلاء وما لديّ من سلاح لدفع الأذى غير التسلّي بأنّ الجيّد والرديء والخير والشرّ في كلّ مكان وفي كلّ بلد. وبنور العقل، لا العاطفة، أجنّب فكري وقلمي ولساني ظلم الناس كما يفعل الأكثرون المتسرّعون إذا نعتوا جهة أو مدينة بوصمة قبيحة عامّة بلا استثناء وكأنّ الشرّ كلّه قد استوطنها والخير كلّه قد هجرها.
لقد عرفت كاتبا صار مشهورا مذ كتبتُ عن أولى رواياته تشجيعا له مثل غيره على المزيد المثري للمكتبة التونسيّة. وغيري استدعاه لبرنامج إذاعي، وآخر لحصّة تلفزيّة حتّى اشتهر الاسم بالجوائز يتصيّدها تباعا. ومن ذلك الوقت انقلب “صاحبي” إلى شخص آخر بذات متضخّمة متعالية حتّى صار يعتقد ويقول إنّ الشرف يكون منه لمن يكتب عنه أو يستدعيه لإذاعة أو يستضيفه في التلفزة وكأنّه صاحب الفضل بالربح الوفير على الناشر وبتزايد القرّاء والمستمعين والمشاهدين.
وأعظم وأخطر من ذلك الانقلاب بنسبة مائة وثمانين درجة على سلّم الأخلاق أن أصبح لا يرى في الساحة غيره ولا يعترف بأحد سواه. وكلمته كلّما ذكر له اسم سأل بمعنى الاحتقار والإنكار: “لم أعرفه، وماذا يبيع؟” والعبارة تونسيّة مائة بالمائة من جملة إبداعاتنا اللغويّة بمعنى “ماذا يفعل؟” إن في الأدب والثقافة عموما وإن في مجال آخر. وأذكر مرّة مرّت عليها سنوات أنّي أجبته بأنّ الذي يسأل عنه ويتجاهله “يبيع” الكتب مثله وينتج سلعته وكأنّي لمّحت إلى المثل الدارج “صاحب صنعتك عدوّك”.
وهذا “السيّد” الذي امتلأ قلبه حسدا وبغضاء، واستلقى كحجر عثرة في طريق هواة الأدب من الشباب الصاعد، واستولى على الدنيا وتسحّر بالآخرة، كما نقول بعباراتنا الشافية الكافية، سينتهي ذات يوم إلى مستقرّ له، وسيتعاقب المحتفون بذكراه في الأربعينيّة من الأيّام ثمّ في السنويّة والعشريّة والخمسينيّة من الأعوام ليكرّروا بالمصدح على الجمهور ممّن عاصره وممّن لم يدركه نفس الكلام الجميل، أنّه كان وكان، وأنّ الثقافة خسرته، وأنّه شاهد على عصره، وأنّه الإنسان الخلوق المتواضع، وأنّه الكاتب المبدع المشجّع والمثقّف العضوي والوطنيّ الغيور. وحتّى من لم يجالسه مرّة في الحياة سيدّعي أنّه يعرفه كما لم يعرفه أحد، وأنّه ينفرد بسرّ عنه سيكشف عنه لأوّل مرّة، وسيوصي أحدهم بجمع الشهادات “القيّمة” في كتاب وهو في قرارة نفسه يحمد الله إذ رفعه إليه وفسح المجال لغيره. وماذا بقي لمندوب الثقافة غير أن يقول: “سنسعى لإطلاق اسمه على نهج طويل عريض في حجم مقامه لأنّه كان قامة من قامات تونس الزاخرة بالكفاءات”. وفي المقابل فنّان “الغلبة” الذي عاش متمنّيا عنبة اختصارا لقول الدوعاجي المأثور. وتلك هي الدنيا عالم حظوظ ونفاق ونكران منذ أقدم العصور، غير أنّا تجاوزنا المدى.