
ليعلم من لا يعلم إذا أراد أن يعلم أنّي كلاسيكيّ في كلّ شيء. نشأت في منزل عتيق بين أثاث تقليدي، وتغذّيت بأكلات شعبيّة، واستمتعت بحكايات عمّي وعمّتي، وحفظت قصار السور في الكتّاب بزاويتي سيدي نصر وسيدي بوغرارة، وتربّيت في مدرسة تعرف الشابي وشوقي وحافظ إبراهيم وجبران وإيليا أبا ماضي، ثمّ تدرّجت إلى معهد يعرف المنفلوطي وجرجي زيدان وطه حسين والعقّاد والحكيم، فإلى جامعة تعرف الشرقاوي ونجيب محفوظ والطيّب صالح، وتعرف حضارة القيروان وابن خلدون وابن عاشور. ومن الشعر الجاهلي وغزل القرن الأوّل بين عمر وجميل وشعر القرن الثاني بين خمريّات أبي نواس وزهديّات أبي العتاهية حفظت الكثير. ومن رسالة الغفران وبخلاء الجاحظ ومقامات الهمذاني تأثّرت بالوفير. فماذا بعد هذه النماذج التي تأسّس عليها تكويني وصقل بها ذوقي ؟ ثقافة موازية للدراسة، في السينما المناضلة بنادي دار الثّقافة ابن رشيق، والأغنية الملتزمة بدار الثقافة ابن خلدون، ومعارض الفنون التشكيليّة في الداريْن وفي قاعة يحيى وقاعة الأخبار، ومعارض الكتاب، وأيّام قرطاج السينمائيّة وبعدها المسرحيّة أي بعد أن كانت باسم أسبوع المسرح، ومهرجان قرطاج الذي صعد على ركحه دريد لحّام ووديع الصافي وناس الغيوان ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي وياسمين الخيّام وباليه كاراكلاّ، وفرقة عبد الحليم نويرة للموسيقى العربيّة، وشارل أزنافور وهيثر باريزي. والقائمة أطول ممّا ذكرت.
وبعد كلّ هذا كيف أتجاوب مع شعراء لا يزنون، ورسّامين يخربشون، وممثّلين منفردين، لا يضحكون، ومغنّين لا يطربون؟ وهل أنا في حاجة إلى أكثر ممّا حصّلت، ونعم الحاصل والمحصول ؟ لقد ودّعت المسارح والقاعات وانكفأت على مكتبتي مكتفيا بها، وفيها الكثير ممّا لم أجد له ممّا مضى وقتا لمتعة المطالعة. وبناء عليه فلا أطلب من وزارة الثقافة شيئا، ولا أنتظر رؤية وسياسة، ولا يعنيني من دور الثقافة والمهرجانات أمر. إنّما أسفي على هذا الجيل الشاب الذي حلم بربيع عربيّ فغرق في اللاّمعنى. فكيف له أن يبني المستقبل وهو الجاهل بالتاريخ، وكيف يكتب وهو لا يقرأ، وكيف يعبّر وهو يخلط، وكيف ينقد وهو لا يفكّر، وكيف يتذوّق وهو بلا ذوق؟
ومن اعتبرني مخطئا أو مبالغا أو قاسيا أو متشائما فليسأل عن الشباب في معرض الكتاب، وليسأل في متحف باردو وفي الجم وسبيطلة ودقّة وبلاّريجيا وشمتو، وليسأل عن المستوى في المدرسة والمعهد والكلّية ثمّ في الإدارة والحظيرة والجمعيّة، وليسأل، بالمناسبة، عن الغشّ في الامتحانات وعن المحاباة في الانتدابات من مثل أربعة مطلوبين من أربعمائة مترشّحين.
والحمد لله أن خلقني في ذلك الجيل الأصيل المتشبّع بالفخر والاعتزاز، الملتزم بالصدق في القول والإخلاص في العمل، المترفّع بالذوق السليم، المؤمن بقيم الدين ومبادئ الوطن. والحمد لله أن وهبني أجمل ما يُقرأ، وهداني إلى أحسن ما يقال ويكتب، وأتاح لي أروع ما يُرى ويسمع في حفل رأس العام.
والآن قبل النوم حان سماع “رقصة الأطلس” لعبد القادر الراشدي و”مصر تتحدّث عن نفسها” لشاعر النيل والسنباطي سواء مع كوكب الشرق أو مع فرقة دار الأوبرا بتوزيع أركسترالي لمصطفى ناجي وبقيادة سليم سحّاب ورفيقه أمام المجموعة في حفل وزارة الثقافة بالقلعة بحضور الرئيس حسني مبارك. ذاك حدّ ذوقي.