
إذ حفظت “وأمّا بنعمة ربّك فحدّث” (الضحى: 11) جاز لي شكر الكريم المعين على ما أقدرني عليه من العلم في حدّ جهدي ومبلغ عمري في الخمسين التي نشرت والثلاثين التي خططت، ومنها في السيرة الذاتيّة وحدها سبعة أظهرت منها خمسة. غيري كتب سيرته في سفر واحد، أمّا أنا فقسّمتها كما تصوّرتها، وتداولتها كما تذكّرتها. وما زلت أتذكّر لأنّي ما زلت أنسى أو صرت أنسى أكثر فأكثر. فحقّ لي أن أتدارك ما فات مجتنبا التكرار اجتناب “البائت المسخّن” في غير الطعام. وكلّه من فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده المخلصين. والحمد لله، مثبّت قدميّ إذا مشيت ومرشد فكري إذا تكلّمت بالصوت أو كتبت بالقلم. أحمده أن جعل فضله عليّ في العلم الجاري الصدقة، لا في المال المشبوه الزائل.
وما أتذكّر وأذكر يخصّ حياتي المهنيّة في جزئيّة يقدّرها أهل المهنة الشريفة. ذلك أنّي منذ الطفولة أحببت المؤدّب الحافظ للستّين حزبا، ومنذ الصبــا أحببت المعلّم الحافظ لقواعد اللغة، فتعلّقت همّتي بالتعليم عبر مدرسة ترشيح المعلّمين ومن بعدها دار المعلّمين العليا، ثمّ مارسته بين المعاهد فازداد تمكّني من القواعد زيادة على جمّ الفوائد. وإذ أرجو أن أكون قد بلّغت الرسالة وأدّيت الأمانة قدرا ما، وأرضيت ضميري نوعا ما، فإنّي لا أخفي ما خلّف فيّ ذلك الشغل العسير كغيري ممّن إذا أرجأهم ملك الموت إلى ما بعد سنّ التقاعد تناوبتهم الأمراض المزمنة ما بين السكّري وارتفاع الضغط والانهيار العصبي. والمعذرة إذ سمّيتها للإحساس بها لأنّ الإشارة إليها بالجملة والنعت غير كافية وغير معبّرة بصدق ودقّة عن معاناة المعلّم، في الابتدائي والثانوي والعالي، الذي لم تعد منزلته المادّية والمعنويّة كما شاء شوقي بفعل الأمر أن تكون على أنّه كاد أن يكون رسولا لأنّ الأمم الأخلاق ما بقيت.
ولكنّي أتذكّر أنّي ذات مرّة بلغ بي الغيظ أن استأذنت مغادرة معهد منفلوري إلى قسم الاستعجالي بمستشفى شارل نيكول لتخطيط القلب. لقد اتّفق “فلذات أكبادنا” على ألاّ يعدّوا جميعا ولو قليلا من العمل المنزلي الذي من دونه لا ينجح بل لا يتمّ الدرس في القسم أصلا. قصدوا بذلك السلوك التشاركي تعجيزي نظرا لامتناع العقاب الجماعي ولو بمجرّد « ملاحظة” أو حتّى بـ”إنذار” لا يصلحان ما أفسده الدلال مخلّف الهبال. ومرّة أخرى أصبت، من سوء القدر في معهد بورقيبة النموذجي بتلميذ أشبه بالبيضة الفاسدة، حتّى لا أقول بالدارجة “العظمة الحارمة”. ولم ينفع فيه الطبّ، تنبيها كان أو عقابا أو طردا مؤقّتا، لإنقاذ الحصّة. وكان زملاؤه يحرّضونه مسبّقا على تعطيل العمل غير مبالين بحقّ الراغبين الجادّين. فإن حاولت تشريكه على الأقلّ بقراءة فقرة من النصّ المزمع شرحه تعلّل بالسعال، وإن توجّهت إليه بسؤال ردّ بأعجب مقال. وما أسرعهم إلى الضحك على البحرين الطويل والمديد من العروض الذي ودّعوه باحتقار على قدر احتقارهم في أغلبهم لمادّة العربيّة لغة وأدبا وحضارة. وماذا يفعل الأستاذ الحريص على الدرس والبرنامج مع أمثال هؤلاء إذا امتنعوا بطريقة “الفصل الصامت” (classe morte) متعلّلين بالفرض القادم في مادّة أساسيّة بشعبة علميّة أو جاؤوا متأخّرين “زُرافات ووحدانا” وأجساما بلا عقول بعد فرض عسير بضارب كبير ؟ فأمّا هؤلاء فيحلّون مشاكلهم بالدروس الخصوصيّة، وأمّا هو فليس لديه إلاّ الصبر على البلاء حتّى يكمل السنة سالما من الأذى لأنّه وحده في المحنة بين الإدارة والأولياء، ولأنّه في كلّ لحظة عرضة للشكوى إن هو بكلمة انفعال يكون على حقوقهم قد اعتدى. ولأنّ كلّ هذا، وغيره كثير، يعود على الصحّة بالضرر الكبير حقّ للمجاهدين في ميادين التعليم ولأمثالهم في المهن الشاقّة ألاّ يحاسبوا في الآخرة بعد عذاب الدنيا… وكلّ يوم وأنتم معهم بخير إن شاء الله.