
شأنُ كل الملاحم الشعبية يأخذ الجانب الاحتفالي نصيبا هاما في التعبير عن الفرحة ويكون ذلك دوما عن طريق الغناء والرقص في القوالب التقليدية وخاصة منها الدبكة. وفي كل المسرحيات الرحبانية يحتل الموروث الفلكلوري مكانةَ وظيفيةً هامة في مثل هذه المشاهد الجماعية حتى يُخيّل للسامع أن ما يُنشد في هذه المسرحية يُسمع في أخرى.
البكباشي (رتبة عسكرية بمعنى مقدّم) “كُجك أحمد” عسكري عثماني نشأ في القصر وعمِل في خدمة الأمير واطلع على كل أسراره، وهو شخصية محورية في التاريخ الفعلي لفخر الدين ويلعب في المسرحية الرحبانية دورا أساسيا في قلب موازين القُوى.
وكما يدلّ معنى اسمه بالتركية (كثيف العمالة) فهو شخصية ناكرة للجميل يظهر على حقيقته منذ أن بدأ الأمير يوزّع الصلاحيات على رجاله وطلب إليه أن يبقى معه في الديوان لكنه اعترض على ذلك وفضّل قيادة القلعة فلم يستجب الأمير لطلبه.
وتتوجس عطر الليل خيفةً من هذا الرجل الغامض فيطلب منها فخر الدين أن تغني لبنان فتحييه في نفوس شعبه وترسّخ حبَّه في ضمائرهم في ذات الوقت الذي يبدأ مشروعَه في تعمير لبنان.
لكن للخير حتما وجها آخر هو الشر. لم يكن كجك أحمد راضياً عن الموقع الذي عيّن فيه فبدأ يتآمر مع الأميرة منتهى ليُسقطه ويخططان معا لتأليب ناس البلد والإمبراطورية العثمانية ضد فخر الدين.

فيروز في دور عطر الليل
انطلقت عطر الليل في التجوال من ضيعة لضيعة حاملةً رسالة فخر الدين ومبشرةً بأفكاره، وبدأ الأهالي في العمل والتعمير في جو من الفرحة والحماس.
على إثر عرض المسرحية في مهرجانات بعلبك نشر الناقد اللبناني نزار مروّة في جريدة لأخبار البيروتية الأسبوعية مقالا نقديا تحت عنوان: أيام فخر الدين عمل اقتحامي ثم أردفه في الأسبوع الموالي بمقال آخر بعنوان أيام فخر الدين عمل موحّد.
ولئن لم يُخف الناقد بعض احترازه على الإخراج الذي تولاه صبري الشريف فقد كتب بموضوعية المتمكن من أدوات النقد الموسيقي واستعرض أهم جوانب التجديد في المسرحية. واعتبر الناقد أن الإخراج تخلف عن المسرحية وأنه كان يضخم النغماتِ الميلودرامية الخافتَة في “الليبريتو” (النص) بالشكلية الجمالية المبالَغِ فيها بحيث كانت التشكيلات تفقِد تعبيريتَها أحيانا.
يقول نزار: “هذه أفكار ضخمة ولا يُمكن لطُموحٍ فني مثلِ هذا أن يتحقق دون موسيقى متفوّقة. فإذا كان من الصعب فهم المسرحية من زاوية التاريخ وحدَها، فإنه يستحيل فهمها بمعزل من البعد الموسيقي. وإذا كان هناك من صفة ملحمية تتميز بها المسرحية فهي تكمن بالضبط في الموسيقى، في الميلوديا (اللحن) الجديدة والنظرية الهارمونية الرحبانية التي تتبلور من عمل إلى آخر، في قائمة الآريا والدويتو أي الألحان الفردية والثنائية والمجموعات الغنائية البالغة الدرامية. سنرجع خائبين إذا ما بحثنا عن الملحمة في النص وحده، حيث نجد الشعر، أو في الإخراج حيث نجد الميلودراما”.
المسرحية الغنائية عند الرحباني إذن هي توازن بين عناصر الفرجة المتنوعة في خدمة هدف واحد دون أن يطغى عنصرٌ على الآخر فتساهم جميعها في تطور الأحداث وتفاعلها فيما بينها.
ولنا في تاريخ البلاد التونسية شخصيات أثرت في زمنها سواء في البناء العمراني أو البناء المجتمعي لشعوبنا وتصدت لكل محاولات الإذلال التي تعرّض لها الناس أو كانت أيضا متسلطة.
لكن أعينَ الناظرين عندنا عمياء وآذانَ المُصغين صمّاء لا تتعظ بالتاريخ ولا تُقدّمه فُرجةً فنيةً للناس بل تُقدّس “لكلكاتِه” وتنفخ في صُوَرِها البائسة.
(يتبع)