
عن روح المدينة العربيّة الإسلاميّة قرأت كتابات مشرقيّة ومغربيّة، متفاوتة الجودة، في الأجناس الأدبيّة فضلا عن الدراسات التاريخيّة والاجتماعيّة. وأجملها كانت بأقلام أديبات تونسيّات في جنس السيرة الذاتيّة بالفرنسيّة من وحي الحنين إلى “المدينة العربي” التي غادرنها إلى الأحياء الجديدة. وأنا معهم ومعهنّ “في الهوى سواء”، هوى المدينة العتيقة التي لها روح، وفيها حياة، سواء أكانت بلدتي الطيّبة إذا رجعت إليها بذكريات الطفولة والشباب أو كانت مدينة الكاف حيث عاشرت أهلها الطيّبين أو كانت تونس العاصمة إذا جلت في أسواقها المسقوفة وعبرت أنهجها الضيّقة المبلّطة المنحنية لشحنة أسبوعيّة من روحانيّات المشاهد والأصوات.
من جامع الزيتونة تنتشر القداسة مباركة المجال المجاور إذا رفع الأذان أو رتّل القرآن، ومن سوق العطّارين تفوح روائح الحنّاء وماء الزهر والعطرشاه والنسرين. ومن سوق النحاس تتناغم مقارع المطارق كما لكلّ قرار جواب. وأصوات الباعة تحرّك البيع والشراء في الصاغة والتحف والشواشي والملابس والمفارش والأقمشة والأحذية. وواحد لا سلعة له غير كانون البخور يطوف به على المتاجر لدفع الكساد وجلب الحظّ والربح. وروائح المطاعم الشعبيّة من المقليّ والمشويّ تثير الشهيّة. ونكهة القهوة بالززوة والشاي المنعنع بأرخص الأسعار تغري بقعدة مريحة على كرسيّ قديم أو على مصطبة وحصير قبالة معلّقات من الصور القديمة قدم الأبيض والأسود. في ذلك الجوّ أحسّ بالوقت وأشعر بالحياة. والتحيّات المتبادلة خير ما يسمع حيث لا مكان للكلام البذيء، واللباس التقليدي التونسيّ الأصيل زينة الرجال والنساء وعنوان الهويّة ودليل القيم الاجتماعيّة. هناك أشعر فعلا بأنّي ابن مدينة عربيّة إسلاميّة، عريق في التاريخ ومتشبّع بالتراث. شعور كالعلاج في الطبّ النفسي لا أجده في أيّ حيّ عصريّ محسوب على الرقيّ. هو حقّا رقيّ، ولكنّه مظاهر مادّية، لا شيء منها في الصميم.
متعتي وسعادتي في المدينة القديمة أمام الأبواب الزرقاء والصفراء المحلاّة بالمسامير المقبّبة والحلق السوداء على المصراعين و”الخوخة” ذلك البويب الذي يأخذني في طرفة عين إلى باب دارنا البعيدة بنحو سبعة وسبعين كيلومترا والمأسوف عليها مذ غادرتها أمّي إلى مثواها الأخير بعد وحدة السكنى والخوف الساكن. هناك، قبل رحلة الجميع تباعا إلى رحمة الله، عشت سعيدا بين والديّ وأعمامي محروسا بوليّين صالحين: سيدي نصر القرواشي شرقا وسيدي أحمد بوغرارة غربا. وفي زاويتيهما حفظت مع صغار “الكتّاب” قصار السور برعاية مؤدّبنا “سي” الطاهر القيطوني الذي كنّا نحبّه ونخشى عصاه. ولا شكّ أنّ غيري يسكن مطمئنّا بنفس الاعتقاد في الأولياء وبنفس المشاعر تجاه المقامات، في ظلّ زاوية أو مسجد أو بين أحضان معلمين دينيين. ولا ريب في أنّه يتصرّف في ذلك المجال المقدّس مستفيدا من قيمة مضافة معنويّة أو مادّية في أيّة عمليّة عقاريّة إن شاء. حتّى المقابر في بلدتي الطيّبة وفي غيرها لها روح، وفيها لا تسمع غير القرآن والدعاء.
وتجاوزا للذاتيّة فروحانيّة المدينة العتيقة في العواصم العربيّة يفسّرها الباحثون في خصائص العمارة الإسلاميّة بالتناسب بين الأحجام والتناسق بين الألوان والأضواء ومراعاة الأشكال والمقاييس والموادّ للوظائف والبيئة وللجمال. وبعيدا عن الأبّهة والبذخ والتبذير أجد السعادة في طمأنينة النفس في كنف البساطة وحسن التدبير.