
شخصيةُ عطر الليل التي تمثّلها السيدة فيروز هي شخصية من نسج خيال المؤلفَين وليس لها وجود فعلي في التاريخ، ابتدعها الرحباني لتلعب دورَ الضميرِ الشعبي تنطِق بلسان الناس وتُحب عنهم وتخاف عنهم وتُحس وتشعُر بالمخاطر التي تهدد وطنَها وأميرَها. ثم يجب أن لا ننسى في الأخير أن التاريخ ليس إلا إطارا مرجعيا لإثارة أفكارَ وأحاسيس وأنّ العملَ الفني لا يتقيّد بالأحداث ولا يغيرها بل يستوحي منها للعبرة والمثل.
في التاريخ الفعلي “آل سَيْفَا” حكامُ طرابلس وعكار هم أعداءُ الأمير اللدودين وتعود الخصومة معهم إلى أزمنة بعيدة وقد حصَلت بين الفريقين معاركُ عديدة ولم تُفلح المصاهرة في تخفيف حدة الخلافات.
وكان آل سيفا قد أغاروا في غياب الأمير على “دير القمر” مقرِ أسرة الأمير وهدموا قصره وأحرقوا مزارع أنصاره.
عزَم الأمير إثر عودته من المنفى على مهاجمة آل سيفا، فحشد الرجال وزحف إلى عكار حيث قصور آل سيفا فهدمها ونقل حجارتها الصفراء الجميلة إلى دير القمر فأعاد بناء قصره وقصور آل مَعَن. وقد برر الرحباني ما وقع من أحداث في معايرةِ الأمير من طرف أعدائه بزَجَليّة شهيرة قللت من شأنه، فما كان منه إلا أن ردّ عليهم بالمثل وأرسل دورية لتأديبهم.
في حوارية غنائية بين عطر الليل (فيروز) وأبيها الجندي (جوزيف ناصيف) تَعلم الفتاة أن الكجك أحمد يدبر مكيدة مع الباب العالي لإزاحة فخر الدين وقد بادر بإصدار أمرٍ بإبعاد أبيها عن الأمير ونقله إلى مدينة أخرى.
كان للأخوين رحباني موقف ثابت وصريح من الخلافة العثمانية بسبب ما فعلته في سوريا ولبنانَ من قمعٍ واضطهاد للعرب ومقاومةٍ شرسة لكل تحرك انفصالي وتهديمٍ لكل عمران وبناء، وكلما وجد الأخَوان الفرصة سانحة في السياق الدرامي إلا وهزّءاها بالغناء وجعلا من التركي شخصية مُضحكة وغبية.
والتاريخ يعيد نفسه.
والمسرحية لا تتناول إلا فترة معينة من حياة فخر الدين ولم تتطرّق لكل تفاصيل المرحلة التي حفَلت بوقائع تاريخية كثيرة بل اكتفت بذكر الأحداث الرئيسية منها.
يوغر الكجك أحمد صدر السلطنة علي فخر الدين موهما إياها أن الورشة القائمة في لبنان من شانها أن تهدد مصالح اسطنبول. وسمعت الخلافة من الكجك فأرسلت إلى الأمير لقب سلطان البر بالإضافة إلى حكم نابلس وعجلون. وقد اشترطوا عليه في المقابل أن يوقف جميع نشاطاته التعميرية والدبلوماسية في لبنان لأنها تُعتبر أعمالاً عدائية موجهة ضد السلطنة العثمانية.
يرفض والي الشام مصطفي باشا أن يعترف للأمير بولاية نابلس وعجلون ويهاجمه فتكون موقعة عنجر التي صورها الرحباني على المسرح بمرونة كبيرة. لم تجر معركة على خشبة المسرح وأمام المشاهدين لكنها تجسمت من خلال النص والموسيقى التصويرية المرافقة وكذلك المؤثِرات الصوتية. أما استعداد تقابل الجيشين في الحرب فيصوره نشيد الفرسان العرب “يا مْهيرة العلالي” والنشيد الرسمي للعسكر الانكشاري العثماني.
وهذه المعركة هي الأشهر في تاريخ فخر الدين وقعت في بلدة عنجر بمنطقة البقاع عام 1623 حيث جابه اثني عشر ألفا من عسكر مصطفى باشا بجيش صغير قِوامه أربعةُ آلاف جندي.

ويبدو فخر الدين إلى اليمين على صهوة جواده
وبعد وقائع عنيفة انتصر الأمير وتمكن من أسر الوالي لكنه أحاطه بالإكرام والحفاوة ثم أطلق سراحه. وقابله الوالي بأن اعترف بجميل الأمير وولاّه على منطقة البِقاع.
في هذه الأثناء تُصلي عطرُ الليل غناءً يصوّر قلقَ الناس عن مصيرهم ومصير وطنهم، تغنّي بكامل العفوية والطيبة والاستسلام أحيانا. “فهي ليست الشخصية القوية المقاوِمة مثلَ غُربة في مسرحية جبال الصوان ولكنها تقترب من الألوهة أو من عالم التخيلات وقصص الأطفال”.
ويزيد انتصار فخر الدين في عنجر من كراهية الكجك أحمد والأميرة اللبنانية فيقرر الكجك الذهاب إلى اسطنبول لتحريضها علي محاربة فخر الدين، بعد انتصارهم علي الفرس. فجأة تعلن الدولة العثمانية أنها حشدت مئة ألف عسكري بقيادة الكجك أحمد لمحاربة فخر الدين وكان عند فخر الدين خمسةٌ وعشرون ألف جندي فقط.

كتب منصور الرحباني بعد وفاة أخيه عاصي: “حين كنا غارقَين في التأليف، شعراً وموسيقى ومسرحاً، كنا ندوِّن أفكاراً مسكوبةً في جمال، ولم نكن نَحدُسُ دوماً أو كلياً بما سيكون لها من تأثير على الناس، مع أن همومنا كانت تذهب لملاقاة الناس”.