
قامت القيامة في مصر على ملحّن تجرّأ على تلحين القرآن الكريم بالعود وقد يصل الأمر إلى شطبه من النقابة ومنعه عن الممارسة وربما إلى محاكمته بتهمة تدنيس المقدّس.
وبالمناسبة بجدر التذكير أنه خلافا للديانات الأخرى لا يوجد في الإسلام مفهوم لموسيقى مقدّسة sacrée وأخرى مدنسة profane أي بمعنى أدق ليس هنالك قوالب مرتبطة بالكلام المُقدّس سوى ترتيل القرآن الكريم وتجويده وفقا لقواعد متداوَلة وهيئة لحنية مخصوصة.
أما فيما تبقى فهي ألحان موضوعة لنصوص من تأليف شعراء وزجالين لا تختلف عن الموسيقى المسماة دنيوية لا من حيث القوالب البنيوية أو الصيغ اللحنية أو الموازين الإيقاعية ولا فرق بين ما هو ديني وما هو غير ديني سوى الغايةُ التي وُضع من أجلها والهيئةُ اللحنيةُ التي تؤديها.
ولكي يفصلوا بين النوعين سموا الديني إنشادا والدنيوي غناء.
وبالمقارنة فإن الموسيقى المسيحية في مذهب الكاثوليك مثلا تؤلف في مقامات يونانية عتيقة modes antiques تسمى “غريغورية” modes grégoriensنسبة للبابا غريغوار الأول الذي أثبت ترتيبها وحدد مساراتها اللحنية المخصوصة (590 م).
أما الإنشاد الديني عندنا فهو ليس على نمط واحد بل متنوعا بحسب الغرض الشعري إن كان مديحا للرسول أو ابتهالا للمولى أو تأملا في الحياة الدنيا أو تهييجا لعواطف وجدانية أو تعبيرا عن حكمة إنسانية أو وعظا وإرشادا.
ونقلا عن الإمام الغزالي يقول في كتابه (إحياء علوم الدين): “ومن لم يُحرّكه السماع فهو ناقصٌ، مائلٌ عن الاعتدال، بعيدٌ عن الروحانية، زائدٌ في غلظ الطبع على الجِمال والطيور بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة”.
فالموسيقى إذن هي تعبير إنساني من عمق الوجدان لا يتنافى الصادق منه مع قيم المجتمع السامية وأخلاقياته ولا مع معتقداته الروحية بل يزيدها ترسيخا وتأكيدا، أما المبالغة والإفراط فيدخل في خانة الشعوذة والدجل.
وكتب الصادق الرزڤي في أوائل القرن الماضي أن المساجد كانت تُنار في المواسم الدينية، وقبل أذان العشاء بساعة يصعد جماعة المؤذنين والمنشدين إلى الصوامع فينشدون بأصوات حسنة قصائد غرّاء كلها في تمجيد ذات الله سبحانَه والتنويه بذكر الرسول عليه السلام ثم يؤذنون للعشاء فرادى ثم جماعات ثم ينزلون مرتلين برنّات عذبةِ السماع بعضَ القصائد أو المنظومات مثل همزية الشيخ البوصيري.
ويحدث مثل هذا في كثير من البلاد العربية خاصة في شهر رمضان ويسمونها “أهازيج السحر”، وهي تسابيح مٌرسلة يرددها المنشدون والمؤذنون فوق المآذن قُبيل أذان الفجر في مدح الرسول والابتهال إلى الله.
ومن المُلفت للنظر أن المقرئين الأوائل كان لهم تكوين مزدوج ديني ودنيوي ولهم دراية موسيقية بعلم المقامات والموازين إلى درجة أنهم يستعملون صيغا لحنية لا تختلف كثيرا عن الغناء الدنيوي.
وكثير من هؤلاء كان لهم شأو كبير لدى السمّيعة لحلاوة أصواتهم وقدرتهم الفائقة على التطريب إلى حد الانتشاء مثل عبد الباسط عبد الصمد ومحمد رفعت.

وأول الصيغ المتصلة رأسا بالدين الأذان وهو نداء للصلاة عند المسلمين يؤدى خمس مرّات في اليوم قبل كل صلاة.
كان المؤذن ينادي المُصلّين من مكان مرتفع أو من على المنارة أو من على سطح المسجد أما اليوم فإنه ينادي من خلال أجهزة التكبير وربما يُسجّل بعضُهم النداء على أحد الوسائط ثم يبثّه دونَ الصعودِ إلى المئذنة.
وكان الأذان لمدة غيرُ بعيدة وقبل أن تتوسع الأحياء وتكتظ المدن بالسكان مناسَبةً لكي ينمّيَ المؤذن مساحته الصوتية وقدرتَه على التبليغ إلى أبعد ما يُمكن.
ويشترط في المؤذن أن يكون صوته جميلا قُدوةً بأول مؤذن في الإسلام الصحابي بلال بن رباح الذي كان له صوت حسن فدفعه الرسول إلى الأذان ليُحبب الناس فيه ويخاطبهم بما يستسيغونه من ألحان.
لكننا صرنا اليوم نسمع في بعض مساجدنا أصواتا منكرة تسيء للذوق العام وتدلّ على جهل متأصّل، وما أنكر الأصوات إلا صوت الحمير.
ولحن الأذان مُرسل ويتبع مخطَطا لحنيا شبهَ ثابت وترتيبا مقننا طبقا لقوالب لحنية معينة. وعادة ما ينطلق اللحن في الطبقة الأرضية للمقام ويبلغ تدرّجه مساحة لا تتجاوز الديوان.
على أن كثيرا من المُقرئين ممن اشتهروا بأصواتهم القوية والجميلة يتفننون في أداء الأذان ولكن دون الخروج عن النص وما يقتضيه من إعادة، فالنص لا يتغيّر أما اللحن فهو ينطبع بروح الحضارة التي اعتنقت الإسلام.
