
تحتل الليالي الرمضانية منزلة خاصة في نفوس المسلمين صَنعتها العبادات والسهرات والطقوس الخاصة. وهي مناسبة يجتمعون فيها على العبادة والسهر فتمتزج التسابيح بالطرب والعبادة بالفرحة وينعم الصغار باللعب والفرجة بمختلف أنواعها.
وقد درجت الإذاعات العربية منذ نشأتها على تقديم أغنيات خاصة بالشهر الكريم تترنم بهلال رمضان وأنواره وباحتفالات الرؤيا والاستعداد لاستقبال شهر الصوم. وفي أرشيف إذاعتنا الوطنية مئات من هذه الأغاني أنتجت على مدى ما يزيد على الستين عاما وساهم في إنجازها شعراء وموسيقيون ومؤدون تحوّلت عنهم الذائقة الفنية بفعل طغيان النموذج التجاري العالمي وعزوف الأجهزة عن تصميم برمجة معتدلة.
“أغاني السحر” هي تلك التسابيح الشجية التي كان يرددها المنشدون والمؤذنون فوق المآذن قُبيل أذان الفجر وهي أغاني مُرسلة في مدح الرسول والابتهال إلى الله، ويحدث هذا في كثير من البلاد العربية خصوصا في شهر رمضان. ومن أشهر الفقرات التي كانت تُنشد ضمن أهازيج السحر قصائد الشاعر الصوفي عمر ابن الفارض.
والملاحظ أن الابتهالات والتسابيح هي مُرسَلة وغير مُوقّعة تشبه الموّال في مساراته اللحنية ولكن تختلف من حيث صيغتها التي تتسم بالهيبة والوقار.
واللافت للنظر أن جُلّ المقرئين لهم تكوين مزدوج ديني ودنيوي ولهم دراية بعلم المقامات والموازين إلى درجة أنهم يستعملون صيغا لحنية لا تختلف كثيرا عن الغناء الدنيوي.
فقد نقل قسطندي رزق عن الشاعر خليل مطران أن المطرب عبده الحامولي اعتلى مئذنة مسجد الحسين في إحدى ليالي رمضان بعد صلاة العشاء وانطلق يترنم بأبيات من الشعر تسبّح للمولى عز وجل.
والمعروف أن الشيخ علي محمود أحد مشاهير المقرئين المصريين في القرن الماضي كان أسلوبه في التلحين مأخوذا من الفنانين القدامى فقد نشأ شغوفا بفن عبده الحامولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي وغيرهم وعن هؤلاء كوّن أسلوبه وبنى مجده الموسيقي.
وتقول عنه عطيات عبد الخالق خليل في كتابها عن علم التجويد: كان للشيخ علي محمود صوتا قويا جبارا يتحكم فيه ويسيطر عليه سيطرة تُذهب العقول وتُذهل الألباب، صوتا رغم جبروته وقدرته، ليّن، طيّع يتلوّن كما يشاء صاحبه، صوت مُلمّ بعلم النغمات وبالمقامات العربية. ويعتقد الكثيرون أن الشيخ علي محمود الموسيقي خير من علي محمود المُقرئ، لأن الفن يغلِب عليه فيقهر الأول الثاني.
ومن العادات التي جرت في مصر توديعاً لشهر رمضان أداء صلاة آخر جمعة من شهر الصيام “الجمعة اليتيمة” في جامع عمرو بن العاص بالقاهرة، علماً أن المسجد المذكور بقي معطلاً نحو مئة سنة، لكن الناس كانوا يقصدونه يوم الجمعة الأخيرة من رمضان للصلاة والتبرك.
كذلك جرت العادة في مدن الشام والحجاز والجزائر على إنشاد القصائد التي تبين فضائل رمضان من مآذن المساجد خلال العشر الأخيرة منه توديعاً له.
ومثلما اعتاد المسلمون أن يحتفلوا باستقبال شهر رمضان المبارك بالحفاوة والتكريم وإقامة مظاهر الفرحة للتعبير عن ترحيبهم بإطلالته بعد طول شوق وانتظار، فقد جرت العادة أيضا أن يودعوه بالحفاوة والتكريم نفسهما في الأيام العشر الأخيرة لكن بمظاهر الألم والحزن والتحسّر لقرب رحيله.
وتُسمى العشر الأخيرة من رمضان “أيام التوحيش”، وكلمة التوحيش من الوحشة التي يشعر بها الصائم لمفارقة شهر رمضان قائلا لا أوحش الله منك يا رمضان. وقال الخوارزمي في معنى لا أوحش الله منك أي لا أذهبك الله فتوحش أحباءك منك.
ويتبارى المنشدون من فوق المآذن قبل سَحور الليالي الأخيرة من رمضان في الترنم بمقاطع شعرية في هذا المعنى.
وللدلالة على قِدمها يشير المؤرخ عبد اللطيف فاخوري المحامي أنه عُثر في مكتبة الاسكوريال Escorial في إسبانيا على مخطوطة تحمل عنوان “وداع رمضان المعظّم” لأبي الفرج عبد الرحمان بن الجوزي المتوفى سنة 1200م. ولذا يمكن القول إن تلك العادة كانت سائرة على الأقل منذ القرن السادس للهجرة.
والتوحيش عادة قديمة تختلف من بلد إلى آخر.
يقول الإعلامي اللبناني زياد سامي عيتاتي إن عادة “التوحيش” شاعت في بيروت في شهر رمضان مع أواخر القرن الماضي وأصبحت تلك العادة من مقومات العبادة حتى أن الدولة العثمانية سنّت التوديع وأمرت بإبقاء المصابيح والإكثار منها في سائر ليالي رمضان وأمرت المؤذنين أن يحتفلوا لهذه الأوقات الشريفة ويُكثروا فيها من التسابيح والتهليل ويُنشدوا القصائد الموضوعة في المديح النبوي.
ومنذ ذلك الوقت بقيت عادة التوحيش قائمة في مساجد بيروت التي كانت تضاء أنوارها ويرتادها المؤمنون بكثرة وتقام في رحابها الصلوات وحلقات الذكر والإنشاد والدعاء وختم القرآن الكريم، وكانت فرق الإنشاد النبوي تطوف الشوارع في أوقات السحور حتى تبلغ الجامع العُمري الكبير قبل إقامة صلاة الفجر.
برغم الوحشة التي تستولي على القلوب بقرب انتهاء شهر رمضان المبارك فإن أمل عودته في العام المقبل وأجواء الفرحة التي تطبعها أيام العيد القريبة تفتح باب الرجاء لحياة أفضل.