
هذه المسايرات مستوحاة من سيرة كتبها المكّي العلوي تحت عنوان “مسار وذكريات” (نقوش عربية، تونس 2024). كتبها بذاكرة قويّة، دقيقة في التفاصيل، حذرة في العبارة، متأدّبة مع الناس، متجنّبة الإساءة إلى أحد سواء من الأحياء أو من الأموات. ذلك لأنّ السيرة السياسيّة من جملة روافد التاريخ المعاصر ومن أهمّ مصادر المؤرّخ ما دامت الوثائق لا تتاح للباحث إلاّ بعد خمسين سنة بصفة عامّة أو بعد مائة سنة في حالات خاصّة لأنّ الكتابة عن الأمس القريب كالتشريح أو التجريح في اللحم الحي، بعبارتنا التونسيّة.
وبادئ ذي بدء لا بدّ من تسجيل طفرة لافتة للنظر في كتابة السيرة الذاتيّة طيلة نصف القرن الماضي، سواء منها الأدبيّة المتمتّعة بحرّية الخيال أو السياسيّة المحاصرة بالتاريخ إذ يترصّدها المؤرّخون، فضلا عن المذكورين فيها من الأحياء، بالمقارنات وبالوثائق المحفوظة غالبا لدى العائلات والشخصيّات الفاعلة، وكأنّ كلّ واحد يريد إثبات الذات في التاريخ على هواه لأجل أبنائه وأحفاده بدرجة أولى بصفة المناضل الوطني الشريف الصدوق.
ومن خلال مذكّرات المكّي العلوي تتجلّى صورة السياسي المتحزّب في ظلّ الحزب الواحد الحاكم بأمره. وهو الحزب الذي يفضّل تجميع عديد الصفات والمسؤوليّات في شخص واحد يعتبره محلّ ثقة على توزيعها على بعض الأشخاص. لكأنّ الحزب الواحد يتخوّف من التعدّد إذ يوكل لشخص واحد مسؤوليّات في الشعبة والبلديّة واللجنة الثقافيّة والجمعيّة الرياضيّة والنيابة البرلمانيّة واللجنة المركزيّة والسلك الديبلوماسي حتّى تصبح ولايته أو جهته قرينة اسمه كلّما دعت الحاجة كما في مناسبات الانتخابات.
ومن كان جامعا لعديد الصفات وذا مسار ثريّ بالذكريات لا يستطيع أن يدوّن شهادته للتاريخ في كتاب واحد، ولا يستطيع أن يتذكّر كلّ شيء، كما لا تجوز مطالبته بالتفاصيل في كلّ فصل. وحسبه أن يضيف إلى سير غيره بمزيد التوضيح والتصحيح، ولو أنّ التخلّص من الذاتيّة شبه مستحيل.
وهذه الكمّية المهولة من سير السياسيين غارقة في الماضي مثل خبر كان، وقلّما تنظر إلى الحاضر أو تستطلع المستقبل لاستشراف رؤية وتصوّر مخطّط واقتراح حلول. وهذا عجز تابع لغياب الفكر النقدي، وبخاصّة النقد الذاتي، أمام جموح الرغبة في تلميع الصورة وتبرئة المواقف. وهو أيضا عجز حاصل من التعلّق بالتفاصيل عوض التحرّر منها وتجاوزها إلى استخلاص العبر في إطار نظرة تأليفيّة اقتداء بابن خلدون في تجاوز التاريخ إلى فلسفة التاريخ.
وبالتالي فمن المستحيل، حتّى لا أقول من العبث والغباء، توهّم العثور في تلك السير المحرّرة بديبلوماسيّة محنّكة على أصوات المهمّشين في الجهات والمحتجّين في الأحياء الفقيرة لأجل الشغل والعيش الكريم بعد ثورة فاشلة على حزب مستبدّ، مسبوق باستعمار ناهب وعرش فاسد. وربّما لهذا نفر الشباب من الكلام المنمّق عن التاريخ والهويّة والذاكرة الوطنيّة.