بعد اقل من شهرين من الاعلان عن نتائج الانتخابات، و مفاوضات أُجريت بنسق حثيث تجنبا للتباطؤ الذي سقطت فيه المستشارة “الحالية-السابقة” انغلا ميركل، والتي امضت اثر الانتخابات السابقة سبعة اشهر كاملة في التفاوض لتشكيل فريقها الحكومي تاركة في الاثناء شركائها الاوروبيين في وضع ترقّب و تخوّف لما لالمانيا من وزن إقتصادي حاسم، في اقل من شهرين قلنا، اعلن المستشار الالماني الجديد و زعيم الحزب الاشتراكي اولاف شولتز عن الحكومة الجديدة التي ستحكم القوة الاولى اقتصاديا في اوروبا و الرابعة في العالم.
انها حكومة “الثلاثة الوان” كما اصبح يطلق عليها حتى قبل المصادقة من طرف البنداشتاغ (البرلمان الفدرالي الالماني)في بداية شهر ديسمبر المقبل.
و الالوان الثلاثة هي الاحمر و الاخضر و الاصفر و هي الالوان المميزة للاحزاب المتحالفة والتي هي على التوالي الحزب الاشتراكي الذي سيقود هذا التحالف، و حزب الخضر و الحزب الليبرالي، و هذه التوليفة في الايديولوجيات و الالوان شيء جديد لم تعرف له المانيا مثيلا منذ اعادة توحيدها سنة 1990.
و سواء نظرنا في الطريقة التي تم بها التحالف الحكومي، او حاولنا استقراء ما يبرزه من بحث عن التوازن و الفاعلية، او اردنا ان ندرك معاني ما يعكسه هذا التحول في الفعل السياسي الالماني خرجنا بدروس ثمينة في ممارسة الشيئ السياسي و فن الحكم و السلطة. فلا صدام ولا صراع ولا مظنةَ سوءِ فهم ولا إضمار للاحراج الشريك او التخطيط للانفراد بالحكم.
انه ليس درسا واحدا انها دروس كثيرة
هو اولا درس في التواضع السياسي و البحث عن التفاهم، ذلك ان الحزب الاشتراكي الفائز بالانتخابات بنسبة 25,7% لم يبحث عن الاستئثار بالحقائب الوزارية و اكتفى بست (6)وزارات، في حين اسندت خمس(5)وزارات لحزب الخضر الذي حصل على 15% في الانتخابات، وأعطيت(4) حقائب للحزب الليبرالي الذي لم يحصد سوى % 11.
و هو درس في النجاعة السياسية ثانيا لانّ هذا التحالف الثلاثي لم يتمّ حسب تفاهمات تقريبية و انما على اساس “عقد” بكل ما يمكن ان تعني كلمة العقد عند اهل القانون من قدرة على التحالف و حرية و التزام و تنازل و قبول بالاهداف و تشبثّ بالغرض المشروع.
و هو ثالثا درس في الوضوح في الرؤية والقدرة على الاستجابة لانتظارات الجتمع الالماني المستقبلية عبر برنامج عمل يجمع بين اولويات كل شريك في التحالف و يجعل منها اهدافا مشتركة بين الجميع تقود الى مزيد من المكاسب على ميدان حقوق الانسان و التنمية المستدامة و العدالة الاجتماعية و السعي الذي لا ينتهي لجعل تلك الأهداف جزءا لا يتجزا من ممارسة حكم المانيا.
درس رابع في تواصل الدولة يتمثل في القطع دون قطيعة و التغيير دون كسر، و طي صفحة ميركل دونما تنصّل او تنكّر لامراة قدمت الكثير و احتلت مكانا و مكانة في ذاكرة المانيا، وانما بروح استمرارية عالية و قد اصرت ميركل ان يصطحبها المستشار الجديد الى اهم الملتقيات الدولية و ان يكون حاضرا الى جانبها عند طرح امهات القضايا المستقبلية في اطار مجموعة العشرين او ندوة المناخ.
هذه الدروس المبدئية الاولى لا تمنع بالطبع من وجود حسابات سياسية ظاهرة او خفية، غير ان الاساس تبقى دائما المانيا و مصالحها و صورتها و مصداقية حكومتها.
ولا شك ان العالم سيشهد عما قريب كيف يتبلور “عقد التحالف”الحكومي الالماني و يتجسم في شكل قرارات و انجازات على ارض الواقع مثل انهاء استعمال الفحم الحجري، و تعزيز المنظومة الفيديرالية للاتحاد الاوروبي، و دعم دور الناتو، و تشريع استهلاك القنب الهندي، وكلها ذلك سيكون له تاثير قوي و مباشر على دول العالم كلها ناهيك ببلدان المنطقة.
وخلاصة الدرس الالماني ان لا ديموقراطية دون احزاب سياسية و لا حكم اليوم دون توافق و لا توافق دون برنامج و لا برنامج دون احترام لقواعد اللعبة.
انه الدرس الذي تقدمه لنا المانيا بذلك التميّز Deutsche Qualität الذي يمثل سمة و التزام وانضباط الشعب الالماني.