برولوغ
هل نحن اليوم أمام عودة التراجيديا؟ أم أمام عودة التراجيدي؟
هل نحن أمام نفاد الجهد واتضاح الرؤية أمام بلاغة الخراب المحيط بنا والخسارات الفادحة المتراكمة في وعينا الجمعي كترسبات جيولوجية عفنة لم نعد قادرين على صياغة خطاب في حجم هذا الخراب وفي تألقات هذا التخريب الدائم لكل شيء ذي قيمة؟ ربما لا تعنينا التراجيديا اليوم، بل لم تعنينا أصلا اللهم ما نحسنه من لطميات ونواح ونعتقد أنه كاف على اقترابنا من التراجيديا ووعيها.
يبدو أننا مجتمعات محكومة بالإثم والخطيئة والندم، ربما لأننا غير معنيين بالتراجيديا لأننا غير معنيين بالعار. ألم تكن التراجيديا وليدة المجتمعات المحكومة بالعار، أم أن التراجيديا وحدها لا تكفي للتعبير عن كل هذا الخراب الذي نعيشه.
النفس الامارة بالسوء
حين شاهدتُ منذ سنوات ولأول مرّة مسرحية المخرج الشاب سليمان البسّام “مؤتمر هاملت” The Al- Hamlet Summit على خشبة قاعة الفن الرابع في تونس مع فرقته اللندنية في عام 2003 …
قلت في نفسي الأمّارة بالسّوء أن هذا مخرج سيضيق عليه حذاء شكسبير أو أن حصاة ما ستؤلمه وهو يحتذي هذا الحذاء…
ثم قلت ساخرا ومتحاملا هذا مخرج مسرحي مدلّل تصلح أعماله لتأثيث المؤتمرات الجيوسياسية وقمم العلاقات الدولية حين تكون المفوضات فاشلة، لقد عثر هذا المخرج على سوق نادرة لترويج بضاعته.
لم أكن أدري أن مشروعه حول قراءة شكسبير يتنزل ضمن مشغل شخصي قد صاغه في ثلاثية – كما التقاليد عند الشعراء التراجيديين القدامى – هي “ثلاثية شكسبير العربية” The Arab Shakespeare Trilogy والتي ضمت إلى جانب “مؤتمر هاملت” مسرحية “ريشارد الثالث: تراجيديا عربية” Richard III : an Arab Tragedy ومسرحية “ليلة الملوك” Twelfeth Night …
قلت في نفسي بعد سنوات حين استذكرت عمله ذاك حول هاملت وأنا أفكر في الكوسموغرافيا الشكسبيرية (1) وتحديدا في علاقة شكسبير بالغيرية بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة أن سليمان البسام تفطن مبكرا و بحدس نادر أن السردية الشكسبيرية كلها أو تكاد يمكن أن تكون مشغلا عربيا, أو على الأقل مِنْخسًا حادّا و محفزا في خاصرة هذا الوعي العربي الشّقي …
قلت في نفسي أن ذاك المخرج الكويتي – البريطاني قد أدرك أن مقولة يان كوت Jan Kott “شكسبير معاصرنا” لا تنطبق على العالم الغربي فحسب بل تكاد تكون تأويلا حجاجيا لما مررنا به – نحن المنتمون إلى الرقعة الجيوسياسية العربية – من نكسات و نكبات و هزائم.
يبدو أن ما “اقترفه” المخرج الكويتي سليمان البسام في عمله الأخير “آي ميديا” وما هو ماض في اقترافه على خشبة المسرح يعيدنا إلى الدرجة الصفر لإعادة النظر في جدوى الفرجة المسرحية بل في جدوى الفعل المسرحي نفسه، إذ يعلن وحده كمؤلف مسرحي (كاتب ومخرج) على الأقل اليوم على حد عبارة الشاعر بوول شاوول عن “نفاذ الأحوال”(2).
بمعنى أنه ما عاد ممكنا اليوم صناعة فرجة مسرحية أو تشييد خطاب مسرحي خارج الضرورة التاريخية في سياق مراوغات الغيرية والتحولات الدقيقة والمجهرية للمرحلة التاريخية التي لا ترى ولا تحس.
لقد نفدت كل الحيل الممكنة في الفرجة المسرحية (العربية) لبناء فضاء مسرحي ممكن يقابل أو يوازيه التعبير عن عدم قدرتنا على بناء فضاء عمومي يمكن أن يكون منطلقا لإعادة ترتيب “الأحوال”، أحوالنا نحن العرب اليوم المتحمسين لاستعمال كل ما هو مستجد من نفايات الأفكار أو ما خلفه الآخر من استعمالات أثبتت عدم صلوحيتها عند تجريبها في واقعنا.
أعتقد أنه في المجال المسرحي، وهو المجال الأكثر إنصاتا وقدرة على مراقبة ما حوله والتأثر به، يلهث مسرحيونا وراء مجمل هذه الخردة المفاهيمية التي نسمعها اليوم في مسارحنا (العربية) دون أن يكون قد ساهموا في صناعتها أو إنشائها أو حتى إدراكها الإدراك الصحيح من النوع الولع بالتجريب والتجريبية والحداثة وما بعدها والدرامي وما بعده وغيرها من الأخلاط المستلفة من هنا وهناك التي تستعمل كمادة لتأكيد الأوحال القدرية وتكريس الثرثرة المتحذلقة التي لا طائل من ورائها.
أعتقد أن سليمان البسّام بحكم تموقعه الصحيح في قطبين هوويين منجذبين ومتنافرين قد أدرك مبكرا، ولمكابدته لهذه النوع من التمزق في الإمساك بسردية مسرحية أصلية قادرة على إنشاء فضاء مسرحي خاص به، فضاء مسرحي بالمعنى الذهني وليس السينوغرافي، فضاء يكون وليد هذا التقاطع الدلالي الكبير والأخرس في آن، تقاطع شبيه بالصوت الذي تحدثه نصول السكاكين كما في مسرحية “آي ميديا”.
هذا ما يفسر بشكل ما اهتمام البسّام بالمدونة الشكسبيرية وإعادة النظر إليها من زاوية الاستفهام لا من زاوية الاستيعاب ومن زاوية الانتساب الكينوني لا من زاوية الاقتباس ومن زاوية الاغتراب الجمالي (المسرحي) لا من زاوية الاستلاب الثقافي أو الحضاري.
يدرك البسّام بحدس رهيف أن لا هوية أصيلة ثابتة للمسرح سواء كان الأمر متعلقا بالعلاقة الثقافية بالشرق أو بالغرب، وإنما الهوية الحقيقية والأصيلة للمسرح هو الحوار بين هاذين القطبين المتناقضين، وهو ما يعني أن مسرحا مستعجلا يمكن أن يقام في ظل هذا التناقض الثقافي المدفوع دائما إلى حلبة التصادم السياسي على الخلفية الجيوسياسية، وهو بوعي حاد يستوعب وبشكل مرن كيف يقيم حزمة أسئلته ليصبح طرفا أساسيا فيها.
في مقاومة الارتيبيكي
ينطلق سليمان البسّام في عمله المسرحي “آي ميديا”(I Media) من رهان صعب، بل يكاد يكون مستحيلا، ألا وهو إعادة استنطاق التراجيديا الإغريقية، أو رسكلتها على محك الراهن من خلال ألمع نماذجها الأركتيبية (Archétypique) وأكثرها تداولا لمعيارية التحضر والبرابرية. وهي بلا منازع سردية ميديا.
إن العود على مساءلة البدايات هي من أصعب الأمور. لأن البدء عادة ما يكون غير مبرّر، بل اعتباطي في أقصى الحالات. هكذا هو البدء الإغريقي القديم سواء في الملحمة أو في نصوص الأسرار الهرمسية أو في التراجيديات، بدءٌ يُقام على الفراغ ويستمد تعريفه من نفسه لأنه فقط جدير بشرعية البداية والإعلان على سلطته كما ثبتته اللغة الإغريقية القديمة حين تسمي بداية الأفعال أو الظواهر أو الأشياء بــــــــــــــــ “آركي” أو “آرخي”Arkhè وهي تعني دلالتين غير منفصلتين: البدء والسّلطة.
ويمكن في هذا الصدد أن نرفع عبارة “آرخي” إلى مصاف المفهوم أو المقولة الفلسفية غير بعيد عن المفهوم الأرسطي في ميتافيزيقا حين تعني “آرخي” فكرة “المبدأ الأول” أو “السبب الأول” المحرك للأشياء.
وهو ما يدل على أن سردية ميديا – أي الشخصية والدلالة-هي النموذج الأركيتيبي لبداية كائن اسمه المرأة، أي المرأة الأولى التي تندلع منها حرائق الدلالة الإغريقية للمرأة المناوئة لفكرة المدينة – البوليس أي لفكرة الحضارة، الضديدة للقوانين والأعراف والذكورية واللوجوس والسياسي فيما هو تشريع للحوار.
وآركيتبية ميديا هي آركيتيبية شُيّدت على الهامش وعلى الهامشي في الذاكرة الجمعية باعتبارها كما عند غوستاف يونغ C.G.Jung وليدة الوعي الباطني المتعارض مع اللوجوس.
ونعني هنا وفي سياق السردية الأسطورية والتراجيدية المرأة المنفلتة، والمرأة الضديدة، والمرأة العنف الموغل في العنف، وميديا في هذا السّياق أيضا المرأة التي تستبدل الوطن بالمنفى، والانتماء العائلي بالحب، والقوة بالتذلل والخيانة بالعنف، والبرابرية بالتحضر، والعدالة بالتوحش واللغة بما وراء اللغة. لذلك فحسب فإننا نعتقد أن شخصية ميديا تتجاوز عبر هذه الآركيتيبية ما يتم الترويج له بأنها شخصية نمطية أو ستريوتيبية (un stéréotype) في منظار القراءة الغربية اليهو- مسيحية التي تعتبر ميديا رمزا للشر المطلق كما تشير إلى ذل الباحثة دينا باكالكسي Dina Bacalexi في دراستها حول فكرة البطولة عند ميديا (3) .
إن مجرد زحزحة ميديا من سياقها الأسطوري والتراجيديا ومن القراءة اليهو-مسيحية وتشغيل رواسبها البدئية وتفعيلها في راهنية المشغل المعاصر كما فعل سليمان البسّام سيؤكد أن شخصية ميديا تتجاوز هذه النمطية المرتبطة بالتوحش والفظاعة والشر المطلق إلى أفق جديد هو أفق سياسي بامتياز، وأنا الأركيبتبية التي أشرنا إليها كصفة ملازمة لشخصية ميديا هي في الحقيقة معين البدايات الذي يعمل كمحرك دائم لمساءلة السّياسي. أليست معركة ميديا في جوهرها معركة سياسية شرسة ضد نظام سياسي قائم لا يعترف بها؟
مسرحية ” أي ميديا ” لسليمان البسام
آرخي –ميديا (أو) لعبة تدبير المتّوحش (1- 5)
هل نحن اليوم أمام عودة التراجيديا؟ أم أمام عودة التراجيدي؟ هل نحن أمام نفاد الجهد واتضاح الرؤية أمام بلاغة الخراب المحيط بنا والخسارات الفادحة المتراكمة في وعينا الجمعي كترسبات جيولوجية عفنة لم نعد قادرين على صياغة خطاب في حجم هذا الخراب وفي تألقات هذا التخريب الدائم لكل شيء ذي قيمة؟ ربما لا تعنينا التراجيديا اليوم، بل لم تعنينا أصلا اللهم ما نحسنه من لطميات ونواح ونعتقد أنه كاف على اقترابنا من التراجيديا ووعيها.
يبدو أننا مجتمعات محكومة بالإثم والخطيئة والندم، ربما لأننا غير معنيين بالتراجيديا لأننا غير معنيين بالعار. ألم تكن التراجيديا وليدة المجتمعات المحكومة بالعار، أم أن التراجيديا وحدها لا تكفي للتعبير عن كل هذا الخراب الذي نعيشه.
النفس الأمارة في مؤتمر هاملت
حين شاهدتُ منذ سنوات ولأول مرّة مسرحية المخرج الشاب سليمان البسّام “مؤتمر هاملت” The Al- Hamlet Summit على خشبة قاعة الفن الرابع في تونس مع فرقته اللندنية في عام 2003 …
قلت في نفسي الأمّارة بالسّوء أن هذا مخرج سيضيق عليه حذاء شكسبير أو أن حصاة ما ستؤلمه وهو يحتذي هذا الحذاء… ثم قلت ساخرا ومتحاملا هذا مخرج مسرحي مدلّل تصلح أعماله لتأثيث المؤتمرات الجيوسياسية وقمم العلاقات الدولية حين تكون المفوضات فاشلة، لقد عثر هذا المخرج على سوق نادرة لترويج بضاعته.
لم أكن أدري أن مشروعه حول قراءة شكسبير يتنزل ضمن مشغل شخصي قد صاغه في ثلاثية – كما التقاليد عند الشعراء التراجيديين القدامى – هي “ثلاثية شكسبير العربية” The Arab Shakespeare Trilogy والتي ضمت إلى جانب “مؤتمر هاملت” مسرحية “ريشارد الثالث: تراجيديا عربية” Richard III : an Arab Tragedy ومسرحية “ليلة الملوك” Twelfeth Night … قلت في نفسي بعد سنوات حين استذكرت عمله ذاك حول هاملت وأنا أفكر في الكوسموغرافيا الشكسبيرية (1) وتحديدا في علاقة شكسبير بالغيرية بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة أن سليمان البسام تفطن مبكرا و بحدس نادر أن السردية الشكسبيرية كلها أو تكاد يمكن أن تكون مشغلا عربيا, أو على الأقل مِنْخسًا حادّا و محفزا في خاصرة هذا الوعي العربي الشّقي …
قلت في نفسي أن ذاك المخرج الكويتي – البريطاني قد أدرك أن مقولة يان كوت Jan Kott “شكسبير معاصرنا” لا تنطبق على العالم الغربي فحسب بل تكاد تكون تأويلا حجاجيا لما مررنا به – نحن المنتمون إلى الرقعة الجيوسياسية العربية – من نكسات و نكبات و هزائم.
يبدو أن ما “اقترفه” المخرج الكويتي سليمان البسام في عمله الأخير “آي ميديا” وما هو ماض في اقترافه على خشبة المسرح يعيدنا إلى الدرجة الصفر لإعادة النظر في جدوى الفرجة المسرحية بل في جدوى الفعل المسرحي نفسه، إذ يعلن وحده كمؤلف مسرحي (كاتب ومخرج) على الأقل اليوم على حد عبارة الشاعر بوول شاوول عن “نفاذ الأحوال”(2).
بمعنى أنه ما عاد ممكنا اليوم صناعة فرجة مسرحية أو تشييد خطاب مسرحي خارج الضرورة التاريخية في سياق مراوغات الغيرية والتحولات الدقيقة والمجهرية للمرحلة التاريخية التي لا ترى ولا تحس. لقد نفدت كل الحيل الممكنة في الفرجة المسرحية (العربية) لبناء فضاء مسرحي ممكن يقابل أو يوازيه التعبير عن عدم قدرتنا على بناء فضاء عمومي يمكن أن يكون منطلقا لإعادة ترتيب “الأحوال”، أحوالنا نحن العرب اليوم المتحمسين لاستعمال كل ما هو مستجد من نفايات الأفكار أو ما خلفه الآخر من استعمالات أثبتت عدم صلوحيتها عند تجريبها في واقعنا.
أعتقد أنه في المجال المسرحي، وهو المجال الأكثر إنصاتا وقدرة على مراقبة ما حوله والتأثر به، يلهث مسرحيونا وراء مجمل هذه الخردة المفاهيمية التي نسمعها اليوم في مسارحنا (العربية) دون أن يكون قد ساهموا في صناعتها أو إنشائها أو حتى إدراكها الإدراك الصحيح من النوع الولع بالتجريب والتجريبية والحداثة وما بعدها والدرامي وما بعده وغيرها من الأخلاط المستلفة من هنا وهناك التي تستعمل كمادة لتأكيد الأوحال القدرية وتكريس الثرثرة المتحذلقة التي لا طائل من ورائها.
أعتقد أن سليمان البسّام بحكم تموقعه الصحيح في قطبين هوويين منجذبين ومتنافرين قد أدرك مبكرا، ولمكابدته لهذه النوع من التمزق في الإمساك بسردية مسرحية أصلية قادرة على إنشاء فضاء مسرحي خاص به، فضاء مسرحي بالمعنى الذهني وليس السينوغرافي، فضاء يكون وليد هذا التقاطع الدلالي الكبير والأخرس في آن، تقاطع شبيه بالصوت الذي تحدثه نصول السكاكين كما في مسرحية “آي ميديا”.
هذا ما يفسر بشكل ما اهتمام البسّام بالمدونة الشكسبيرية وإعادة النظر إليها من زاوية الاستفهام لا من زاوية الاستيعاب ومن زاوية الانتساب الكينوني لا من زاوية الاقتباس ومن زاوية الاغتراب الجمالي (المسرحي) لا من زاوية الاستلاب الثقافي أو الحضاري.
يدرك البسّام بحدس رهيف أن لا هوية أصيلة ثابتة للمسرح سواء كان الأمر متعلقا بالعلاقة الثقافية بالشرق أو بالغرب، وإنما الهوية الحقيقية والأصيلة للمسرح هو الحوار بين هاذين القطبين المتناقضين، وهو ما يعني أن مسرحا مستعجلا يمكن أن يقام في ظل هذا التناقض الثقافي المدفوع دائما إلى حلبة التصادم السياسي على الخلفية الجيوسياسية، وهو بوعي حاد يستوعب وبشكل مرن كيف يقيم حزمة أسئلته ليصبح طرفا أساسيا فيها.
في مقاومة الآرخيتيبيكي
ينطلق سليمان البسّام في عمله المسرحي “آي ميديا”(I Media) من رهان صعب، بل يكاد يكون مستحيلا، ألا وهو إعادة استنطاق التراجيديا الإغريقية، أو رسكلتها على محك الراهن من خلال ألمع نماذجها الأركتيبية (Archétypique) وأكثرها تداولا لمعيارية التحضر والبرابرية. وهي بلا منازع سردية ميديا.
إن العود على مساءلة البدايات هي من أصعب الأمور.
لأن البدء عادة ما يكون غير مبرّر، بل اعتباطي في أقصى الحالات.
هكذا هو البدء الإغريقي القديم سواء في الملحمة أو في نصوص الأسرار الهرمسية أو في التراجيديات، بدءٌ يُقام على الفراغ ويستمد تعريفه من نفسه لأنه فقط جدير بشرعية البداية والإعلان على سلطته كما ثبتته اللغة الإغريقية القديمة حين تسمي بداية الأفعال أو الظواهر أو الأشياء بــــــــــــــــ “آركي” أو “آرخي”Arkhè وهي تعني دلالتين غير منفصلتين: البدء والسّلطة.
ويمكن في هذا الصدد أن نرفع عبارة “آرخي” إلى مصاف المفهوم أو المقولة الفلسفية غير بعيد عن المفهوم الأرسطي في ميتافيزيقا حين تعني “آرخي” فكرة “المبدأ الأول” أو “السبب الأول” المحرك للأشياء.
وهو ما يدل على أن سردية ميديا – أي الشخصية والدلالة-هي النموذج الأركيتيبي لبداية كائن اسمه المرأة، أي المرأة الأولى التي تندلع منها حرائق الدلالة الإغريقية للمرأة المناوئة لفكرة المدينة – البوليس أي لفكرة الحضارة، الضديدة للقوانين والأعراف والذكورية واللوجوس والسياسي فيما هو تشريع للحوار.
وآركيتبية ميديا هي آركيتيبية شُيّدت على الهامش وعلى الهامشي في الذاكرة الجمعية باعتبارها كما عند غوستاف يونغ C.G.Jung وليدة الوعي الباطني المتعارض مع اللوجوس.
ونعني هنا وفي سياق السردية الأسطورية والتراجيدية المرأة المنفلتة، والمرأة الضديدة، والمرأة العنف الموغل في العنف، وميديا في هذا السّياق أيضا المرأة التي تستبدل الوطن بالمنفى، والانتماء العائلي بالحب، والقوة بالتذلل والخيانة بالعنف، والبرابرية بالتحضر، والعدالة بالتوحش واللغة بما وراء اللغة.
لذلك فحسب فإننا نعتقد أن شخصية ميديا تتجاوز عبر هذه الآركيتيبية ما يتم الترويج له بأنها شخصية نمطية أو ستريوتيبية (un stéréotype) في منظار القراءة الغربية اليهو- مسيحية التي تعتبر ميديا رمزا للشر المطلق كما تشير إلى ذل الباحثة دينا باكالكسي Dina Bacalexi في دراستها حول فكرة البطولة عند ميديا (3) .
إن مجرد زحزحة ميديا من سياقها الأسطوري والتراجيديا ومن القراءة اليهو-مسيحية وتشغيل رواسبها البدئية وتفعيلها في راهنية المشغل المعاصر كما فعل سليمان البسّام سيؤكد أن شخصية ميديا تتجاوز هذه النمطية المرتبطة بالتوحش والفظاعة والشر المطلق إلى أفق جديد هو أفق سياسي بامتياز، وأنا الأركيبتبية التي أشرنا إليها كصفة ملازمة لشخصية ميديا هي في الحقيقة معين البدايات الذي يعمل كمحرك دائم لمساءلة السّياسي. أليست معركة ميديا في جوهرها معركة سياسية شرسة ضد نظام سياسي قائم لا يعترف بها؟