معركة مارينيان للرسام Alexandre Fragonard (1836)
الموسيقار د. محمد الڤَرفي
كثيرا ما أثار الغناء الپوليفوني زوابع بين المنظرين والمباشرين للموسيقى العربية خلاصتها أن الغناء بأصوات متعددة ومختلفة الطبقات والأنغام هو من سمات الموسيقى الأوروبية وبالتحديد الغناء الديني والتراتيل الكنسية، وبالتالي فهو غريب عن حضارتنا الأحادية التي تغني بصوت واحد monophonique. لكن انتشار هذه الطريقة في الغناء عبر مختلف القارات وعند شعوب مختلفة الثقافة والأصول يطرح تساؤلات عدة حول هذا القاسم المشترك بين الشعوب أولها أن الأمر ليس بالسهولة التي يقدمها عادة منظرو الموسيقى العربية وكأنهم حسموا الموضوع بالجزم أن تعدد التصويت هو ابتكار أوروبي بحت.
وثانيها أن البحوث التي تمت هنا وهناك في مناطق مختلفة من العالم بيّنت بما لا يدعو إلى الشك أن الغناء بأصوات متعددة ظاهرة كونية مبنية على التفاعل بين المتدخلين وأن أغلب أشكال التفاعل الإنساني مبنية على الحوار. فاللغة المبنية على التبادل الصوتي وكذلك الفكر والعمل والتفاعل هي بالأساس حوارية dialogique.
ويطرح بعض الباحثين مفهوم الحوارية الموسيقية dialogue musical للدلالة على نوعية خاصة من الفكر الإبداعي. ولا يرمي هذا المفهوم إلى وصف وتفسير كيف تحولت أبسط أشكال الحوار الموسيقي إلى پوليفونيا من صوتين فحسب، ولكن إلى فهم مختلف صيغ الممارسة الجماعية للموسيقى لأنه سيؤدي إلى تبين الحدود الهشة بين اللحن الوحيد والپوليفونيا.
ويضرب بارتوك مثالا بما أنجزه الملحن الفرنسي Clément Janequin الذي عاش في عصر النهضة الأوروبية (1485-1558) وجمع بين صفة الراهب وملحن الأغاني الپوليفونية المتقنة. فقد كانت اجتهاداته منصبة في إعطاء معنى وصفي للموسيقى في لوحات غنائية كثيرة يستعمل فيها الصوت فقط دون الآلات الموسيقية مثل لوحة غناء العصافير ولوحة الصيد ومعركة مارينيان La bataille de Marignan التي يمجّد فيها انتصار الملك فرانسوا الأول في الحرب الايطالية الخامسة (1515).
كليمان جانكان
ويخلص إلى القول أن عصرنا الحديث يتميز بالسرعة إذ تقع التغيّرات بنسق سريع، وأحيانا بأقصى سرعة وبنسق مُدهش، لذلك فإنه لن تلزم قرون لبلوغ الهدف. زيادة على توفّر نموذج للپوليفونيا في حين كانت الپوليفونيا الأوروبية هي التجربة الأولى لهذا النوع. هذا ما كتبه بارتوك في خصوص الموسيقى العربية والذي لم يُعالج في إبانه بالرغم من كل المحاولات العربية الجريئة التي ظهرت هنا وهناك وتألق فيها كثيرون.
إن التجربة المصرية لا تختلف كثيرا في التعامل مع تعدد التصويت كظاهرة طبيعية وهي تعتمد كذلك على “الصدمة السمعية” التي تحدثها التآلفات ذات ربع الصوت حين نستمع إليها لأول وهلة ولكنها ما تفتأ أن تتحول إلى “عادة” تستأنس لها الأذن الشرقية. فكثير من الذين تناولوا أعمالا من التراث في صياغات پوليفونية حولوا مقامات المؤلفات الأصلية ذات الأرباع إلى مقامات خالية منها أي أنهم نقلوا هذه المؤلفات من النظام المقامي الطبيعي إلى النظام النغمي المعدل.
من ذلك ما أنجزه يحيى الليثي أستاذ الهارموني والكونترپوينت في كونسرفتوار القاهرة حين قام بصياغة پوليفونية لأغنية سيد درويش (الڤللالڤناوي) من مقام “الراست” فحولها إلى المقام الكبير وأفقدها روحها المقامية الشرقية. وقد استعمل الليثي في هذه الصياغة التعددية صوتين فقط: الأول سفلي وفيه وضع لحن سيد درويش بعد تغيير مقامه والصوت الثاني علوي وهو اللحن الذي أضافه لمصاحبة اللحن الأصلي، وهو منهج يماثل ما قام به في عشرينات القرن الماضي الإيطالي “كاسيو” واليوناني “كوستاكي” في المصاحبة الهارمونية لأعمال سيد درويش المسرحية بآلة البيانو فحذفا المسافات ذات الربع وعوضاها بالمسافات المعدلة التي يحتويها البيانو.
وفي تمشٍ مغاير استعمل المؤلف المصري جمال عبد الرحيم (1924-1988) لحنا شعبيا (إدّلع يا عريس يا بو لاسه نايلون) ضمن نسيج پوليفوني ثلاثي الأصوات في متتالية الباليه “حسنونعيمة” يؤدى اللحن التراثي في الصوت العلوي بينما يقوم الصوتان الآخران بعمل محاكاة متداخلة fugato للحن من تأليف المؤلف.
جمال عبد الرحيم
والملاحظ أن التجميعات الهارمونية التي استعملها عبد الرحيم في المقامات الرُبعية (ذات الأرباع) والتي يمكن تأويلها على أنها تآلفات ناتجة عن نسيج پوليفوني يسمى الپوليفونيةالخطيةlinear polyphony التي سادت القرن العشرين في الغرب. ويبدو أن أنسب الحلول التي توصل إليها المؤلف لمعالجة المقامات العربية هي الكتابة الكنترابنتية (تعدد التصويت الأفقي) التي يعتبرها امتداداً طبيعياً للّحنيّـة الشرقيـة وليس المصاحبة الهارمونية الرأسية ذات المراكز التونالية واستنبط لغة بوليفونية لمؤلفاته في المقامات ذات ثلاثة أرباع الصوت. ومن إنجازاته اختراعه لآلة فلوت لعزف ثلاثة أرباع الصوت حتى قال عنه الناقد الألماني Stuckenschmidt: “في موسيقاه إدماج عضوي بين روح الشرق وتكنيك الغرب يمثل خطوة أبعد من بارتوك”.
ونجد هذا المفهوم الأفقي يتكرر عند المؤلفين اللبنانيين الذين سُموا في الخمسينات مدرسة بيروت أو مجموعةالخمس (على غرار الروسيين الخمس) وقد اتفق جملتهم على المعالجة الپوليفونية اعتقادا منهم أن المعالجة الرأسية لا تفي بالحاجة بسبب الطبيعة المقامية للموسيقى العربية. وفي هذا الصدد يقول منصور الرحباني (1925-2009) إن تلك كانت نصيحة أستاذهم الفرنسي برتران روبيارBertrand Robillard (1905-1964) الذي كان له دور هام في تكوينهم وكذلك مقامية موسيقى الكنيسة التي تشبعوا من تراثها البيزنطي والآرامي.
روبيّار