عزيز الشوان يقود أوركسترا الإذاعة المصرية (الخمسينات)
الموسيقار د. محمد الڤَرفي
يطلق النقّاد والمختصون المصريون على الموسيقى الپوليفونية اسم “الموسيقى المتطوّرة” وكذلك “الموسيقى الجادة” وكأنها نقيض الموسيقى السائدة وخاصة العربية والتي يعتبرونها متخلفة أو متوقفة وتُمارس دونما جدّية.
والواقع أن هذا التوصيف غير موضوعي ولا يستند إلى أساس علمي فهو نقل حرفي للمصطلح الايطاليseria ونقيضه buffa وكان يطلق في القرن الثامن عشر على نوعين من الأوبرا الايطالية:
الأول جدي ونبيل opera seria والثاني هزلي ومرح opera buffa.
لكن العارفين بعلوم الموسيقي وتاريخها أمثال المؤلف الموسيقي عزيز الشوّان (1916-1993) وعالم البحار المثقّف د. حسين فوزي (1900-1988) يسمونها بحقّ “الموسيقى السيمفونية” لأنها تتناول عموم قوالب التأليف السيمفوني الغربي التي تعتمد البوليفونيا.
ويقول فوزي في القسم الأول من كتابه (الموسيقى السيمفونية): “وليست هذه الموسيقى في متناول عامة الناس حتى في بلادها، لأن الغربي لا يرقى إلى فهمها وتذوقها إلا مزوّدا بثقافة طيبة وتدريب معيّن.
وحفلات الموسيقى الغربية في الغرب لها جمهورها الخاص غير جمهور الحانات والأغاني المبتذلة بل هو نخبة النخبة من مرتادي دور الأوبرا والباليه.
فليس مما يعنينا أن نظل إلى اليوم في غالبيتنا غرباء عن هذه الموسيقى ما دمنا بحاجة إلى التعرّف إلى فهمها وإدراك مداها ودلالاتها، لا سيما وقد أحيطت في بلادنا بسياج من الأوهام والغموض”.
ويفسر الشوان في كتابه “الموسيقا للجميع” أسباب الوضع الموسيقي القائم في بلاده والذي يعود بالأساس إلى أخطاء في السياسة التعليمية: “أما في مصر فمَن سبقونا من المبدعين كانوا متخصصين في التلحين أي تنغيم الكلام وتنحصر كل أعمالهم هي الأغنية الفردية منعزلين تماما عما بَلغته الموسيقى العالمية من تطوّر وارتقاء وقد كان حالها منذ حوالي خمسمائة عام مثل حال موسيقانا كما وأن من سبقونا لم يتركوا لنا تدوينا لألحانهم لأنهم كانوا جميعا يعتمدون على الموهبة والسليقة”.
كانت مصر سبّاقة إلى هذا النوع من الموسيقى بفضل النهضة الجديدة التي أرساها محمد علي باشا الذي حكم مصر من 1805 حتى وفاته عام 1848 وأراد بها محاكاة العلوم والفنون الأوروبية والسير على خطواتها.
فقد أنشأ ضمن المدرسة الحربية بمدينة الخانكة مدرسة للطبول (1824) وأخرى للعزف على الآلات النحاسية (1827) ثم مدرسة ثالثة للعزف على الآلات الوترية (1829) وعهد إلى أساتذة إيطاليين وفرنسيين بالتعليم فيها.
واللافت للنظر أنه انتدب شبابا من فلاحي الصعيد للانتساب إليها وممارسة هذه الآلات، وتشهد تقارير الأوروبيين أنهم برعوا فيها رغم غرابتها عن ثقافتهم الأصلية.
وتواصل الأمر كذلك في عهد الخديوي إسماعيل (1830-1895) حتى صار في القصر الملكي (سراي عابدين) تعليم خاص شبه سري اختار له الأساتذة والقادة الايطاليون نخبة من الفلاحين الموهوبين أحضروهم من أعماق الريف وخاصة من طنطا.
وفي عهد الملك فؤاد (1868-1936) تأسست فرقة سُميت “أوركسترا تلاميذ الحرس الملكي” وصار اسمها في عهد الملك فاروق (1920-1965) “الفرقة الوترية الملكية الخاصة”.
وهكذا دخل استعمال التدوين بالنوتة وتوفّرت الأرضية المناسبة التي هيّأت لتكوين أجيال جديدة من العازفين والمؤلفين شاركوا في نمو المسرح الغنائي أولا ثم انتقلوا إلى المجالات الموسيقية المتخصصة مثل موسيقى السينما وقيادة الأوركسترا.
وكان تأسيس أوركسترا الإذاعة عام 1945 فرصة للمؤلفين المصريين لكتابة المؤلفات السيمفونية وحقلا يجرون فيه تجاربهم.
وفي نهاية الخمسينات انتقل هذا الأوركسترا بكامل أعضائه إلى وزارة الثقافة التي تأسست حديثا وأطلق عليه اسم “أوركسترا القاهرة السيمفوني”.
والملاحظ المثال “النهضوي” الذي بدأه محمد علي باشا في مصر ثم واصله من بعده أبناؤه وأحفاده كان نموذجا اقتدى به ملك تونس المشير أحمد باشا باي (1806-1855) فأنشأ المدرسة الحربية (1837) التي تهدف إلى “تخريج الضباط الفنيين والمهندسين والموظفين” وضمت قسما لتعليم آلات الموسيقى العسكرية.
لكن طموحه المحدود وقِصر نظره جعلاه يقتصر على الجانب العسكري والتشريفات الرسمية لا غير وظلت الموسيقى في قَصره تراوح بين الغناء البدوي والطرب الأندلسي.
(يتبع)