الموسيقار د. محمد الڤَرفي
ردد بعض المتظاهرين اليهود في شوارع تل أبيب مخاطبا الفلسطينيين “ألوّح لكم بأعلام الشيطان في الجحيم، النكبة الثانية في الطريق”.
هذا الشعار الذي رفعه مسعورون قلبا وقالبا لم يكن وليد لحظة غضب أو شعور بالقهر من الهزيمة التي ألحقتها بهم المقاومة أو حُرقة على موتاهم وأسراهم بل نابعا عن حقد متأصّل في نفوسهم ضد البشريّة.
عندما دعا باعث الحركة الصهيونية إلى إنشاء “وطن لليهود” كان بعني اليهود فقط ولا غير وهو ما دأب عليه كيان الاحتلال طيلة خمس وسبعين عاما عمل خلالها على اقتلاع أصحاب الأرض من بيوتهم وحاصرهم في جيوب مطوّقة ومتقطعة الأوصال وحاول جاهدا مسح المعالم العربية للبلاد وتهويدها.
ركّز “دعاة الصهيونية الجوّابون” حصريا على استقطاب “الأشكيناز” أي اليهود المقيمين بالبلاد الأوروبية المسيحية لتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين إذ كانوا يعتبرون أن الرصيد البشري بأوروبا هو “من النوع الرفيع” واستبعدوا في البدء يهود “السفارديم” سكان البلاد العربية الإسلامية التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية قبل الحرب الأولى فقد كانوا يحتقرونهم ولا يتورّعون عن تعنيفهم وإهانتهم علانية، والفرق بين النوعين شاسع سواء من حيث المستوى الاجتماعي والمعرفي أو من حيث العادات الصحية الموروثة عن المجتمعات الأوروبية والمانعة لانتشار الأمراض والأوبئة.
والفرق بين النوعين شاسع سواء من حيث المستوى الاجتماعي والمعرفي أو من حيث العادات الصحية الموروثة عن المجتمعات الأوروبية والمانعة لانتشار الأمراض والأوبئة.
وقد استعانوا في ذلك بمن يسمّونهم “أعداء السامية الشرفاء” ألائك الذين كانوا يحلمون بتجريد أوروبا من اليهود وتهجيرهم منها خاصة أن كل البلاد الأوروبية كانت ترفض استقبالهم.
ويُقال في هذا الصدد إن هتلر عرض على بريطانيا تسخير قطارات لتهجيرهم من ألمانيا لكن بريطانيا رفضت ذلك فجمّعهم في “معسكرات الموت” في مواجهة مصيرهم.
كان المجتمع الفلسطيني آنذاك يتألّف في معظمه من فلاحين محدودي التعليم وذوي مرجعية قبلية وكان الانتداب البريطاني الذي يعتبر تعليمهم غير ضروري يحبّذ إبقائهم هكذا في الأرياف ويتجنب تكثيفهم في المدن حتى يسلم من العواقب السياسية.
لكنه بالمقابل لم يمنع “الوكالة اليهودية” من شراء أفضل الأراضي وإخلائها من سكانها وبالتالي تهجيرهم إلى المناطق الحضرية.
بدأت هجرة اليهود من أوروبا إلى الأرض المحتلّة بالفقراء ثم تلاهم الميسورون وأخيرا الأغنياء، وهو عكس اغتراب عرب فلسطين إلى خارج وطنهم نحو الدول المجاورة.
فخلال الحرب الأولى سنة 1948 وبحسب بعض المؤرخين هاجر حوالي 750 ألف عربي من أصل 900 ألف هربا من المعارك أو أطردوا من أراضيهم وذلك على أربعة مراحل:
الأولى: هجرة 100 ألف عربي جلّهم من الطبقة الميسورة والحاكمة.
الثانية: طرد 300 ألف فلسطيني من المدن التي استولى عليها الكيان المحتل مثل حيفا وعكا وطبريّة.
الثالثة: طرد 50 ألف إلى 70 ألف عربي بالطرق العسكرية من اللد والرملة بعد استسلام المدينتين.
إثر ذلك أجبر الاحتلال أكثر من 200 ألف فلسطيني على الفرار من المجازر التي ارتكبوها في حقهم مستثنين العرب المسيحيين من مدينة الناصرة.الرابعة: تحويل نحو 40 ألفا من عرب المناطق الحدودية إلى الضفة الغربية أو ترحيلهم إلى البلاد العربية المجاورة.
وهكذا نفّذ الصهاينة ما أوصى به مؤسس “دينهم الجديد” تيودو هرتزل: “سنسعى إلى ترحيل السكان المحرومين من الموارد بأن نوجد لهم وظائف في بلدان اللجوء ونمنع عنهم في الوقت ذاته حق العمل في بلدنا..
إن عمليات نزع الملكية وتهجير الفقراء يجب أن تُباشر في كنف السرية وبكل حذر”.
هذه هي إسرائيل، نموذج مصغّر للولايات المتحدة الأمريكية تؤلّفه أشلاء مجتمعات لقيطة من المغامرين استوطنوا أرض الآخرين وبنوا بلدا على جماجم ملايين السكان الأصليين أبادوهم في حروب لا تختلف عما يقوم به الكيان الصهيوني في أرض فلسطين.
فكل ما رأيناه في أفلام الوسترن وبيّضت به هوليود وحشية “الأبيض المتحضّر” أمام بساطة “الهندي الرعوي” هي صورة طبق الأصل لهذا الكيان الهجين وتكرار لتاريخ شنيع يلطّخ وجه الإنسانية.