الموسيقار د. محمد الڤَرفي
كان وديع صبرا يقول “أريد أن يكون لدي بيانو أعزف عليه سوناتة بيتهوفن وتقسيما شرقيا”، وقد اجتهد لتجسيم هذه الفكرة التي اعتبرها بعض النقاد اللبنانيين من المتشيعين للقديم تغريبا لا يتفق مع كنه الموسيقى الشرقية وذهبوا إلى حد الطعن في وطنية الرجل واتهموه بخدمة الرؤى الاستعمارية في وقت كان فيه لبنان انتدابا فرنسيا.
إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى رجع صبرا إلى فرنسا حيث اشتغل ثلاث سنوات بمصانع بيانو Pleyel الشهيرة لضبط جهاز قياس monocorde لما أسماه “السلم الكوني” gamme universelle والذي يحتوي على تجزيء الفاصلات النغمية gamme commatique القادرة على تنفيذ الموسيقى الغربية والشرقية معا.
وفي عام 1923 قدمه في لبنان ثم عرضه على مؤتمر الموسيقى العربية/الشرقية الأول المنعقد بالقاهرة سنة 1932.
وجاء في كتاب المؤتمر أن الأستاذ وديع صبرا “أحد مندوبي لبنان إلى مؤتمر الموسيقى” قدّم للمؤتمر البيانو الشرقي الذي ابتكره على طريقة الأربُع فطلب المندوب التركي رؤوف يكتا التثبت فيما إذا كانت هذه الأربُع صحيحة أم لا خصوصا مقام السيكاه قصد إدماجها مع الآلات الوترية.
وأخذوا من البيانو السيكاه وضبطوا عليها السيكاه في القانون ثم دعوا الآنسة أم كلثوم والأستاذ محمد عبد الوهاب للغناء بمقتضاه فلم يتمكنا من الغناء عليها بجميع السبل التي أرادوا اتخاذها”.
ونظرا لعدم ملاءمة هذا الابتكار الغناء الشرقي لم يوافق المؤتمرون على إدماجه مع الآلات الوترية.
ودافع الموسيقار اللبناني عن اختراعه بقوله “إن هذا البيانو وضعتُه لدرس السلم الموسيقي بنسبة الهارموني لا الميكانيكا..
والطريقة التي سرت عليها في وضع هذا البيانو كانت مبنية على أصول الهارموني، وقد وجدتُ أنها متفقة تمام الاتفاق مع السلم الشرقي المستعمل في مصر وخلافها”.
وعلى هامش أعمال المؤتمر ألقى محاضرة فنية أمام “جمهور من المصريين والأجانب” أثبت فيها نظريته التي وضع من أجلها البيانو الشرقي ثم دعاهم إلى مشاهدة “هذا البيانو وتركيبه ودقة صنعه”.
وبالتوازي مع بيانو صبرا شهدت مصر عدة محاولات في هذا المجال أهمها بيانو صنعه نجيب نحّاس المحامي عام 1922 نقلا عن البيانو الألماني August Förster وقال في تقديمه:
“الوسيلة الكبرى لترقية الموسيقى العربية هي إيجاد بيانو عربي كي يسهل وضع القواعد المذكورة في علم الاصطحاب (علم الهارموني) وامتحان صحتها في الآذان”، ثم بيانو صنعه الآلاتي جورج سَمّان مع تحسين في سهولة الاستعمال “إذ بدلا من تحريك المضارب clavier لتحويله من فرنكي إلى عربي -أو بالعكس- يُضغط فقط على زر صغير فتنتقل الشواكيس (المطارق) من الداخل وتضرب على وتر آخر مشدود على النعمة العربية”.
أما البيانو الذي يعتبرونه أكثر نجاحا فهو الذي أنتجه وأعد تصميمه أميل عريان المهندس عام 1922 وحظي بإجازة كبار موسيقيي عصره مثل سيد درويش وكامل الخُلعي. ورغم أن الوثائق لم تفصح عن ديانة المبتكر فإن تلطيخ البيانو برسم نجمة داوود يفصح عنها.
لم يقبل مؤتمر الموسيقى بالقاهرة هذه الابتكارات واعتبرها مسا بروح المقامات العربية وهو ما دعا المستشرق الايرلندي هنري فارمر (1882-1965) إلى التوجه إلى المشاركين بالقول: “إذا كان هذا المؤتمر لا يقرر استعمال البيانو الشرقي فإن مصر ستكون مضطرة إلى استعمال البيانو الغربي على الرغم من المؤتمر وغيره وهذا هو الخطر الذي ستكونون مضطرين لمواجهته”.
بين عامي 1930-31 وضع العازف اللبناني عبد الله شاهين (1894-1975) التصميم الأولي لبيانو شرقي يحوي أرباع المسافات وبدأ تصنيعه عام 1954 في فيينا مع دار هوفمان Frederick Hoffmann.
ويتضمّن البيانو في بعض ملامسه أوتارا إضافية مشدودة بشكل مختلف عن الأوتار المعتادة وبها الدرجات “الرُبعية” المميزة للمقامات العربية، كما أنه مزوّد بدوّاسة تمكّن من تحويل ضربة المطارق على أوتار الدرجات المناسبة حسب الحاجة.
قبل ذلك كان شاهين يسوّي أوتار البيانو العادي بما يلاءم المقامات العربية التي يؤديها في كل حفل ويتوقّف بين كل مقطوعة وأخرى لتغيير التسوية عند الاقتضاء.
عبد الله شاهين يشرح نظام البيانو الشرقي ظل هاجس الموسيقيين منذ أوائل القرن الماضي تلوين الجرس الصوتي للفرقة الموسيقية الشرقية الذي بقي رتيبا مقارنة بنظيرتها الأوروبية المتنوّعة وذلك بإضافة آلات نوعية أخرى تلائم مقاماتها الطبيعية.
فعوّضوا الربابة المحدودة النغم بالكمان وعائلتها ودعّموها بالمعازف الثابتة التي استعملت كآلات لحنية خلافا لطبيعتها البوليفونية كالأكورديون والهارمونيوم الهوائي (الأرغن ذو الأنابيب) والبيانو الوتري.
وقد نتج عن هذا التداخل ازدواجية متنافرة مع السلالم “الرُبعية” المميّزة للموسيقى الشرقية وتشويش يظهر جليا في الكثير من التسجيلات القديمة المتضمنة لمثل هذه الآلات.
(يتبع)