الموسيقار د. محمد الڤَرفي
ما كان لأحد من اليهود المحتلين يتوقع أن صاحب البيت الذي استولوا عليه بالقدس الغربية سيظهر بعد ثلاثين سنة من هجرة مُلاّكه.
جاء الحفيد جورج بشارات إلى فلسطين من خلال جنسيته الأمريكية يبحث عن بيت جدّه حنّا بشارات الذي شيده عام 1926 مستعينا بصورة من الأرشيف العائلي ومستدلاّ بوصف والده وجدّه للمنطقة.
“وجد المنزل بطوابقه الثلاث والسيراميك الأزرق الذي يزيّن واجهته وزواياه وحديقته وأشجار الليمون، استرجع ذكريات المكان وسمع صوت والده وأعمامه يلعبون في حديقة منزلهم ويلتقطون الصور العائلية غير مدركين لمصير منزلهم بعد سنوات”.
هذا المبنى الفخم ذو الطراز المعماري المتميّز كان يحمل اسم “فيلاّ هارون الرشيد” تيمنا بالخليفة العباسي لازدهار المعمار زمن سلطانه واستأجره البريطانيون عندما قررت الأسرة أن تهاجر إلى أمريكا.
لكن الانتداب البريطاني المتواطئ مع الحركة الصهيونية سلّم مفاتيحه لعصابة “الهاڤاناه” عام 1948 سنة النكبة فاستولت عليه وحوّلته إلى سكن لكبار موظفي دولتها ومنهم النافقة “ڤولدا مائير” التي سكنت الطابق الثاني من منزل عائلة بشارات حين كانت تشغل منصب وزيرة للخارجية عام 1969.
جاء الحفيد عام 1977 ليزور بيت جده وأخبر ساكنيه الجدد بالأمر لكنهم أجابوه بكل رقاعة: “عائلتك لم تسكن هنا أبدًا” وهو ما يقوله المحتال حين يجابه بالأمر الواقع.
من ذلك ما صرّحت به ڤولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة في مقابلة لها مع الصحفي الانكليزي Frank Giles على جريدة Sunday Times في 15 حزيران 1969 تحت عنوان (من يستطيع أن يلوم إسرائيل) Who can blame Israel: “الفلسطينيون لم يكونوا موجودين.
متى كان هناك شعب فلسطيني مستقل في دولة فلسطينية ؟
قبل الحرب العالمية الأولى كان هناك جنوب سوريا أو فلسطين التي تشمل الأردن.
ليس الأمر كما لو كان هناك شعب في فلسطين يعتبر نفسه شعبا فلسطينيا وجئنا لطرده والاستيلاء على بلاده.
لم يكونوا موجودين They did not exist”.
عائلة من ريف رام الله عام 1912
وفي لقاء آخر مع تلفزيون Thames TV عام 1970 كررت الأقوال ذاتها والناكرة لوجود الفلسطينيين: “متى وُلد هؤلاء ؟ ماذا كانت هذه المنطقة قبل الحرب العالمية الأولى لمّا حصلت بريطانيا على الانتداب على فلسطين ؟
كانت فلسطين آنذاك هي المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط والحدود العراقية.
أنا فلسطينية (علما بأنها من يهود أوكرانيا وُلدت Mabovitch بمدينة “كيف” وهاجرت طفلة مع أسرتها إلى أمريكا) وكان لي جواز سفر فلسطيني من 1921 حتى 1948.
في هذه المنطقة كان هناك يهود وعرب.. لا أقول ليس هنالك فلسطينيون ولكن لا وجود لشعب فلسطيني واضح المعالم”.
وفي حوار بجريدة New York Times عام 1972 سألها المُحاور هل ما زالت تتمسك بتعليقاتها السابقة، أجابت: “أكّدت أنه لم توجد أمة فلسطينية على الإطلاق”.
مائير تتفقد الجيش الصهيوني خلال حرب “كبور”
بهذا المنطق اللاأخلاقي المارق عن التاريخ تتصرف دولة إسرائيل مع عرب فلسطين بنفس الأسلوب الذي تعاملت به أمريكا العالم الجديد مع الهنود الحمر -السكان الأصليين للقارة- منذ أن وطأت أقدام رعاع أوروبا أرضهم واستولوا عليها وأبادوهم ملايينا ثم حصروا المتبقّين في محميات مقطعة الأوصال.
ومثلما يتعلل اليهود بشأن نزوحهم إلى أرض فلسطين فإن المستوطنين الأوروبيين في شمال القارة الأمريكية يعتبرون أن الهنود الحمر لم يشكلوا قطّ شعبا يحكمه سيّد أو تنظمه إدارة واحدة بل كانوا مجرّد جماعات بدائية متوحشة تعيش في مجتمع قبليّ دموي دائم التناحر.
وقد كرّست هوليود عبر أفلام رعاة البقر western ومغامرات الاستيطان هذا المفهوم عبر صور نمطية ومشاهد ساذجة للمواجهة غير المتكافئة بينهم تجرّعنا سمومها أكثر من مائة عام دون وعي أو إدراك لخلفياتها الشيطانية.
اقترن الوستيرن بشخصية الهندي البري حتى لا يكاد يخلو منه شريط من هذا القبيل، فهو متوحش همجي يطوّق القوافل ويحرق البيوت ويغتصب النسوة ويقطع فروة رأس الرجل الأبيض scalp، وفي المقابل يقدّم المستوطن مزارعا مسالما يعمّر الأرض البور ويفجّر ثرواتها ولا يحمل السلاح إلا اضطرارا للدفاع الشرعي عن “أرضه” وعرضه.
ويقول المؤرخ الأمريكي تورنار Frederick Jackson Turner (1861-1932) وفي هذا الشأن: إن الأرض الأمريكية صارت الحد الأقصى لتاريخ الناس terminus ad quem وكأنها الرجوع إلى “جنة عدن” المفقودة أي نوع من الأرض الموعودة وهو ما سيبرر في جزء كبير الإبادة الجماعية للهنود إذ أن القطر يُفهم إلى حد ما كاستحقاق لاهوتي.
وهكذا فلا اختلاف بين نظرة الكيان للوطن القومي الموعود ومفهوم الوطن عند المستوطن الأوروبي في الأرض الأمريكية، فكلاهما يعتبره استحقاقا حصريا مُنزّلا من السماء يستوجب إبادة من يعترضون على ذلك وإن كانوا مئات الآلاف.
(يتبع)