بقلم : عبد الحليم المسعودي
“إنّ الرّجال الذين العرفُ عيّنهمْ / هُمُ الإناثُ وهُم نفسي وهُم أَملي “
ابن عربي
« Une tragédie n’a pas besoin de finir tragiquement pour être tragique. Seul importe un traitement sérieux »
Ulrich von Wilamowitz-Moellendorff
برولـــــــــوغ
قد نحتاج أحيانا إلى وجود كائن عرفاني.
… أو نحتاج دائما كائنا إلهيا (un devin) بلغة التراجيديا يمتلك الحقيقة ويخفيها أو يذيعها فيكون منذورا للعقاب، كائن يرى من وراء الأشياء والحجب الأسرار عارية قبل نشوء العراء المحض نفسه…
كم نحن في حاجة إلى تريسياس Tirésias العليم كما في الأسطورة يعرف كل شيء عن الأنوثة والذكورة في بدايتها الأركاييكية، بل يعرف التحول من الأنوثة إلى الذكورة ومن الذكورة إلى الأنوثة، لحظة التكشّف دون قصد على الربّة أثينا بلاس Athéna Pallas وهي في كامل عُرْيها تستحم عند النبع في بركتها فتُعاقبه بالعمى ذودا عن أسرارها وخجلها العذري، لكنها بالمقابل تمنحه الحكمة والقدرة على التنبؤ بالحوادث والقراءة في صحف الغيب وطول العمر وفقه لغة الطير وتمنحه تلك العصا الهرمسية التي تتسلقها ثعابين الفارماكون وفي الفارماكون يتجاور السّم والترياق كالبرزخ عند بناء الحقيقة بلا نسبية ولا ضفاف…
ها نحن مرة أخرى بعد “مارتير” متكئين على الجدار القرمزي في الصف الأخير لقاعة الفن الرابع يحرّضنا العمل المسرحي الأخير “آخر البحر” للمخرج المؤلف الفاضل الجعايبي على خوض غمار نقاش ممكن محاصرين بين خلفيتين: جدار الإتكاء القرميزي الذي يكاد يتحول إلى صفحة بحر خمري كما البحر ديونيزي الذي تراه ماريا داراكي Maria Daraki والذي يبدو أن صاحبه قد تحول إلى “سيد العنصر السائل” (Kyrios très hygras physeos) وجدار المواجهة القائم كشاشة خلفية لمشهد بحري لا تنقطع أمواجه عن الحراك.
من ذا الذي رمى بك إلى هذه الضفاف؟
ليس للمخرج المؤلف الفاضل الجعايبي في تقاليده، أو في مسيرته المسرحية الطويلة ما يدل على أنه مهتم بتناول ما نسميه بالريبرتوار المسرحي العالمي قبل هذا العمل المسرحي الجديد “آخر البحر”. لقد سبق له وأن ردّد في العديد من المرّات -بحكم معرفتنا النسبية به-أنه كانت تراوده الرغبة الشديدة في تناول رائعة شكسبير “الملك لير” بالإخراج، وهو ما لم يتحقق عنده إلى اليوم. لكن عودته اليوم للمدونة التراجيدية الإغريقية من خلاله تناوله لتراجيديا “ميديا” اليوريبيدية اقتباسا وإعدادا دراماتورجيا تعد من باب الانعطاف المفاجئ لمسار هذه التجربة التي كادت تنحصر في تناول الراهن الاجتماعي التونسي بكل مزالقه اليومية وراهنيته الواقعية وميثولوجيتها الحديثة. وهذا الانعطاف المفاجئ والناشز عن تقاليد المسيرة الجعائبية لا يخلو من غواية لا بالنسبة للمخرج المؤلف فحسب بل للمتلقي الذي استأنس -رُبّما إلى حدّ التعوّد أو رُبّما الملل وانقشاع أفق الانتظار-من طغيانية هذا الاهتمام باليومي عبر مساءلة بُنى المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي يتحرّك ضمنها وفيها ذاك الكائن العزيز على نفسه والمنتسب إليه والذي يُسمّيه بـ “الكائن التونسي” (l’homo tunisianus).
الثابت أن مسرح فاضل الجعايبي قد ساهم مساهمة عضوية في بناء الوعي عند الجمهور المسرحي وعلى مدى أجيال متواترة ونجح في إثارة نقاش مستمر ومتقطع في ذات الوقت في دوائر النّخب التونسية حول تقاطعات الفن المسرحي بالشأن العمومي مستحوذا ومُشغّلا بشكل لافت مقولة “مسرح نخبوي للجميع” ربما بلا خلفيات أيديولوجية (1) في ظل غياب شبه كامل لالتزام غالبية المشتغلين في الحقل المسرحي التونسي بقضايا المجتمع والشواغل التي تخص الفضاء العام باستثناء زمرة قليلة منهم.
كما نجح وبشكل لا يدعو إلى الشك إلى نحت أسلوب مسرحي خاص به يُتبيّن للوهلة الأولى في مجمل أعماله كخيط سري دقيق يلمحه العارف بمساره الإبداعي متابعة وكتابة نقدية. فالجعايبي كمؤلف لم يحد طوال مسيرته تلك لحظة عن التوغل في مسار صلد حفرا ونحتا لا يكل بالأزاميل التقنية للصّنعة المكتسبة كمهارة تارة وبالأظافر طورا آخرا في اجتراح شعرية خاصة به لا تخطئها العين البصيرة. وفي ذلك علامة بيّنة على أن الرّجل ليس مُجرّد صانع فرجة ظرفية عابرة، أو هو يقيم ممارسته المسرحية على المتاح المرتجل أو على التنازل على ما يشكله “المعنى العام ” (le sens commun) من ذوقية ثقافية جاهزة أو موضة طارئة أو استجابة لطلبية ما خارجة عن اهتمامه وقناعاته. بل أن مسيرته تلك لا تتجلى إلا ضمن مشروع مسرحي ورؤية للعالم مُحتكمة بدورها لوعيه القائم والحذر الذي ضَمِنَ له الاستمرارية ومكّنه من تشييد عالمه المسرحي الذي شُيّد بالمراكمة والاجتهاد والنفس الطويل حتى كاد أن يتحوّل إلى نوع من “الساغرادا فاميليا” (Sagrada Família) أو “المؤسسة” المسرحية و “المَعْلَم” الإبداعي الذي لا يمكن تجاهل حضوره الآسر على امتداد ما يقارب النصف قرن لا في السّياق التونسي فحسب بل في السّياق العربي. غير أن هذا الانزياح أو الانعطاف الطارئ الذي أشرنا إليه في مسيرته والذي تمثله مسرحية “آخر البحر” الملتفت للأصول التراجيدية الموغلة في القدم يمكن أن يقرأ على أساس أنه استبطان وتجاوز لأزمة في النظام الجعائبي نفسه -ونكاد أقول أزمة الترهل-والذي لمسناه في عمله السابق “مارتير” الذي عبّر حسب رأينا عن تآكل تلك “الماكينة الجعائبية” واهتراء ميكانيزماتها من كثرة الاستعمال دون صيانة في التناول والمقاربة المسرحية عنده حتى كدنا نسلم بانتكاس تلك المسيرة الإبداعية الطويلة (2).
الثابت أن الجعايبي كان في حاجة ماسة إلى وجهة أخرى أكثر هدوء أو عصفا يجدّد من خلاله نفسه ربما على ضفاف شاطئ ناء ومهجور، وربما كانت التراجيديا الإغريقية بطعم هذا الماء والملح والهواء العاطن برائحة الطحالب الذي يغوي بالترحال والإبحار إلى الأصول حيث تتكثّف فكرة المغامرة البحرية سواء في مثال الأوديسة أو في سردية الأرغونوت Les Argonautes. الثابت أن التوجه لمواجهة العنصر المائي يُوحي بأن التجربة الجعائبية قد أغلقت في مسارها دائرة منتهية، وأن هذا العنصر المائي بدأ مُلحا هذه المرّة فاتحا بقوّة دائرة جديدة تعبر بشكل ما عن هذا الانعطاف الجديد الذي أشرنا إليه… الثابت أيضا أن الجعايبي كائن أوتوكتوني ترابي وعمراني بامتياز، إذ كل جغرافية أعماله لا تكاد تخرج من فضاء المدينة الحاضرة بعراقتها وحداثتها، ولا تكاد هذه الأعمال أيضا تخرج من جدران العائلة والمؤسسة الاجتماعية أو الرسمية ومن خندق ما يُسمّيه الجعايبي نفسه بـ “الميثولوجيا اليومية” استلافا من فكرة أسطرة الحياة اليومية (la mythologie quotidienne)عند هنري لوفافر Henri Lefebvre ومفاهيم الميثولوجيا الحديثة عند رولان بارط Roland Barthes .
فضاءات مسرح الجعايبي ميالة للانغلاق على نفسها كدلالة خفيّة على التنديد بسلطة الحدود الضيّقة التي تفرضها طغيانية المؤسسات التي يباشرها بالتفكيك. ويبدو أنه مع هذا العمل المسرحي الجديد “آخر البحر” المتكئ على خلفية التراجيديا اليوريبيدية يحاول الخروج إلى حين من أطر هذه الفضاءات الضيّقة إلى أفق أرحب هو أفق المغامرة البحرية بكل هَوْلِها ورَوْعِها وزخمها. وهذا لا يعني أن الجعايبي لم يحلم بأفق البحر كوجهة دلالية ممكنة تحرض على الانعتاق من طغيانية الفضاءات المغلقة فقد كانت تُراوده الرغبة في هذا الاتجاه المُشْرَعِ على أفق مفتوح حين فكّر مرّة مع جليلة بكار تناول النص الروائي لمارغريت دوراس Marguerite Duras “سد في مواجهة المحيط الهادي” (Un barrage contre le Pacifique) قبل أن يغيّر وجهته في عمله “جنون” إلى اعتماد مذكرات ناجية الزّمني. ودون ذلك لم يرد البحر وماءه وموجه العاتي إلا في باب الاستعارة (عن الثورة التونسية 14 جانفي) حين عنون أحد أعماله المسرحية باسم “تسونامي” أو تلميحا قديما لصوت النوارس في “غسالة النوادر”.
هذا الانعطاف الجديد نحو عنصر الماء كما يتجلى في مسرحية “آخر البحر” والذي يؤكد على حضوره بقوّة المخرج طوال العرض بحضور تلك الشاشة الدائم الباثّة لصورة الأمواج البحرية المتلاطمة طوال مدة العرض و كأننا أمام مرآة مائية، لا نجد له من مبرّر موضوعي حقيقي إلا في ذلك التأويل الباطني المُمْكن في لاوعي الجعايبي إذا نحن أخضعناه للتحليل النفسي ألا وهو لذة وألم الحنين إلى الأصول، الحنين إلى عودة الكائن في مسار ما من حياته إلى أمواهِ الرّحم الأمومي الأول الذي يشكل نوعا من الفردوس البدئي، وهو حنين لا يمكن حسب رأينا إلا أن يكون حنينا هوويا يتجاوز الرغبة الليبيدية الأوديبية إلى الأم كلغة قادرة على الاحتضان أو كلغة فردوسية هي بمثابة الملاذ. ولا ندري إذا كان هذا الحنين إلى أمواه الرحم الأمومي مشوب برهاب العودة إلى الحضن الأمومي (L’angoisse du retour au sein maternel) إذا ما اعتبرنا هذا الحنين حسب جاك لاكان نوعا من الرُّهاب المتأتي من خشية ابتلاع الذات من طرف الصورة في المرآة (3) وعلى هذا الأساس يكاد البحر في هذا السّياق أن يكون هذه المرآة المرأة / الأم المهدّدة.
إن الرّغبة للعودة إلى الأصول وغواية العنصر المائي واستبطان المرآة النرجسية المهددة بالابتلاع وخاصّة الالتفات المفاجئ للميثولوجيا الإغريقية وتحديدا إلى سردية ميديا اليوريبيدية لتدفعا إلى درب الحديث على أنه بين المخرج المؤلف بالذات تكمن علاقة غامضة خاصة وأن الجعايبي سبق له وأن أخرج هذه المسرحية في إحدى المسارح الفرنسية عام 2010 عن كتابة لجليلة بكار. وهو ذا يعود إليها مرّة أخرى، فهل ثمة فعلا علاقة غامضة؟
(يتبع)
الهوامش والإحالات