بقلم: عبد الحليم المسعودي
علبة باندورا أم دُمى ماتريوشكا؟
من أكبر التحديات في الدراماتورجيا هو تناول ميثوس قديم وجعله ميثوسا حديثا وإقامة جدلية بين الأول والثاني بالشكل الذي تظل فيه الكتابة الدراماتورجية منشئة لميثوس جديد ممكن. ويبدو أن الجعايبي قد تجرأ على خوض مغامرة مثل هذه في التعامل مع وحش “الهيدرا” (l’Hydre de Lerne) ذات الرؤوس الأفعوانية التسعة، والهيدرا هنا إنما هي “ميديا” الشخصية التراجيدية الشاهقة بكل انفلاتاتها وعنفها ومفارقاتها. تجرأ على إيقاظ هذا الوحش ومواجهته دون الاتكاء على أية حلول أخرى يمكن حشرها في بازارات التحذلق ما بعد الدرامي، لقد كانت الدراماتورجيا وهي تتقدّم من حال إلى حال، ومن وضعية إلى أخرى تنشئ دراما جديدة دقيقة الصنع والإيقاع وتستحدث أفعالها الداخلية الناشئة خارج الميثوس اليوريبيدي دون الانفصال عنه.
ونظن وتساوقا مع هذا المثال الاستعاري الذي ذكرنا بخصوص وحش الهيدرا / ميديا، قد عمدت هذه الدراماتورجيا كل مرّة إلى قطع رأس من رؤوسها وتحويلها إلى نموذج محلي يكاد لقوة حضوره يُلمس بالحواس كلها من فرط ماديتها. فقد تحوّلت ميديا إلى شابة يمنية هي عاتقة موسى سليمان الهاجري اليمنية تنتقم من زوجها التونسي حمادي الجازي الذي أغواها في بلادها وهرب معها إلى تونس وتزوّجها وأنجب منها طفلين لكنه قرّر الزّواج من ابنة مُشغّله جلول التبريزي أحد بارونات الأموال والأعمال الناهضين في سنوات ما بعد الثورة التونسية.
لا يستوي رسم حدود الخرافة في مسرحية “آخر البحر” إلا بتحديد طريقة بسط هذه الحكاية نفسها. ولأن المخرج المؤلف انطلق من ميثوس ميديا اليوريبيدية من أجل فتح مداها على الراهن مع المحافظة على أفعالها المركزية، فإنه ليس من خيار أمام الدراماتورجيا إلا أن تظل طوال الوقت تبسط أو تستعرض وقائع الأحداث في الراهن المفترض. وأمام هذه الحالة ليس من خيار للدراماتورجيا إلا أن تختار بين طريقتين: إما طريقة فض علبة باندورا (la boite de Pandore) دفعة واحدة، أي فتح الباب على مصراعيه لقول كل شيء انطلاقا من تمثل قوس الأحداث وذروتها كما هو الحال في التراجيديا اليوريبيدية، وهذا لن يسمح بتنزيل هذه الحكاية الأركاييكية في سياق الراهن. وإما أن ينتهج طريقة تعليب الدمية ماتريوشكا (matriochka) -أو الدمية الروسية Poupée russe التي تحتوي على دمية أخرى في داخلها تحتضن بدورها دمية أخرى إلى آخر حدود الاحتواء-أو أنها تتوسل بطريقة التضمين المتكرر وهي تتقدم طوال المسرحية. ويبدو أن تكنيك تعليب ماتريوشكا هو التكنيك الناجح الذي يسمح بالتضمين والمراوحة بين الأركاييكي والمعاصر وبين الغابر والراهن. وهو تكنيك يمكن أن نسمّيه بـ “التنزيل (أو التغريق) في الهوّة” (une mise en abîme) أو التعليب (emboitement) اللامتناهي لسلسلة من الخرافات الصغيرة والمشكلة في اجتماعها للميثوس الجديد حيث أن ميديا اليوريبيدية تبدو في مسرحية “آخر البحر” كعلامة مائية (en filigrane) ثم تشربها من طرف الدراماتورجيا الجديدة تماما كما في رائعة جامس جويس James Joyce “أوديسوس” Ulysse حين نقرأ ما يحدث في دبلن إرلندا بداية القرن الماضي و نستذكر في ذات الوقت مفاصل “الأودسية” الملحمة الهوميرية.
كليل طويل … من التحقيقات والإعترافات
تتقدم مسرحية “آخر البحر” في انتظام أربع عشرة لوحة متواترة لا يفصل بينها إلا فواصل الظلمة الركحية. والغالب في انتظام هذه المشاهد الصاعدة دراميا وإيقاعيا وهي عبارة عن مواجهات ثنائية (أو ثلاثية في أقصى الأحيان) موزّعة إما بين استنطاق تجريه قاضية التحقيق وإما مواجهات حوارية بين مختلف الشخصيات فيما بينها. أو بين مساءلات يجريها الطبيب النفساني مع عاتقة /ميديا. فقد حاولت الدراماتورجيا في مشهدها الأول أن تستعرض وبصفة اختزالية في اللقاء الذي تم بين عاتقة وطليقها حمادي الجازي على شاطئ مهجور والذي جاء ليخبرها بوجوب رحيلها إلى بلدها والتخلي عن طفليها. نفهم من خلال شجارهما أن حمادي قد اقترن بابنة مشغله جلول التبريزي، وأنه تكفل بحضانة الأولاد وجاء ليعرض عليها مقابل رحيلها قبول مساعدة مالية. عاتقة أمام شعورها بالهوان ونفاد الأحوال تذكر طليقها بالعهد الذي بينهما وتحاول يائسة التقرب له لكنه يصدها بعنف، فتترجّاه التوسط عند مُشَغّلِه جلول لتمكينها قليلا من الوقت حتى تتمكن من توديع طفليها كما تطلب منه قبول توصيل هدية لعروسه امتنانا له ولصهره مقابل الترفق بها قبل رحيلها إلى بلدها…فبعد هذا المشهد الأول والذي يمكن اعتباره مشهدا فاصلا واصلا بين ميديا يوريبيدس وعاتقة الجعايبي تتوالى المشاهد مترابطة لنتتبع مسار هذه المساءلة العريضة لعاتقة أو ميديا في نسختها العربية الجديدة فنقف على طريق الآلام الذي ترجلت فيه عاتقة والذي حملت صليبه وحدها بين صحو وجنون. فتنتصب أمامنا عاتقة بكل جلالها وانكسارها. المرأة الشابة التي أغواها حمادي الجازي تاجر ومهرب الآثار تسرق مخطوط أبيها وتقرر الهروب معه من اليمن الغارق في حروبه الأهلية إلى تونس التي تعيش أوضاع ما بعد الثورة…
فمنذ المشهد الثاني تتكشّف لنا شخصية حمادي ضمن الاستنطاق الذي تجريه معه القاضية بخصوص الجرائم التي ارتكبتها طليقته. الجازي الذي يبدو أنه مجرد عميل لأحد البارونات المافيواية التونسية تحاول القاضية توريطه كشريك في هذه الجريمة على خلفية صناعة القنبلة المفخخة والتي تلتبس عندها بإمكانية انتماء الزوجين لخلية إرهابية نائمة تخطط للمس من سلامة الدولة كما نتعرف على نشاط عاتقة وانخراطها في أنشطة المجتمع المدني كالدفاع عن الأقليات والمهجّرين. ينتهي المشهد بتهديد الجازي للقاضية بسحب الملف أمام اتهاماته له ويشعرها بتَنَفُّذِهِ لدى السّلط الحاكمة في البلاد …
يأتي المشهد الثالث ويتمثل في مساءلة القاضية للمتهمة عاتقة عن سبب قتلها لأطفالها فتجيبها بكل ثقة أن قامت بذلك من أجل انقاذهما من أب ومن قانون ومن مجتمع لا يرحم. كما تجيبها على كيفية صناعة الهدية الفخ وتفاصيل إعدادها لعملية إغراق طفليها علي وهادي والذي تعتبره عاتقة عملية إنقاذ لهما…
ويكون المشهد الرابع مرورا من المساءلة إلى مشهد تشخيص جريمة قتل عاتقة لطفليها تحت إشراف القاضية وبحضور محامية عاتقة والطبيب النفسي الذي سخرته وكذلك بحضور الطليق الذي أصرت المتهمة حضوره امعانا في الانتقام منه وإذلاله. تروي عاتقة تفاصيل عملية الإغراق منذ الانطلاق فجرا إلى شاطئ لوكا ببنزرت إلى لحظة تصويرها لأبنيها وهوما بصدد الغرق…
يأتي المشهد الخامس وهو عود إلى استنطاق القاضية لعاتقة بحضور محاميتها. تخبرنا القاضية أنه تم العثور على جثتين لطفلين مشوهين على سواحل جزيرة جالطة. نتعرف على شخصية المحامية وهي عينة حيّة عن صنف من الناشطات الحقوقيات المزدهرة تجارتهن في سنوات ما بعد الثورة. نفهم من الحوار بين القاضية والمحامية أن عاتقة قد عبرت عن عدم ثقاتها بالقضاء وأنه سيتم اخضاعها لطبيب نفساني لتشخيص حالتها النفسية والذهنية. وعلى أسلوب النفاق المتبادل بين القاضية والمحامية المزدحم بالشعارات واللغة الخشبية، وضمن هذا الاستنطاق الذي تشارك في المحامية بحماس نفهم أن مغامرة الهروب في البحر باتجاه جيبوتي توجت باشتراك عاتقة في قتل شقيقها اللاحق عليها صحبة أفراد عشيرتها لاستردادها والمخطوط. تغادر عاتقة القاعة إلى قضاء حاجتها وأمام اعترافها بالمشاركة في قتل شقيقها تنطلق مشادة تتبادل فيها المحامية والقاضية التهم باستغلال القضية لمصالح شخصية. ولا تنتهي هذه المشادة إلا بتدخل غريب من عاتقة التي تعود وقد أحرقت غصنا من شجر الغار …
أما المشهد السادس، ويشكل مشهدا واصلا فاصلا. فعلى الشاطئ أين وقعت الجريمة نلمح عاتقة تتخذ من خيمة بلاستيكية صغيرة سكنا لها، كما يقوم العون المكلف بحراستها بتحويط المكان بشريط حظر عازل لمكان الجريمة…
المشهد السابع، وهو اللقاء الأول بين الطبيب النفساني وعاتقة. سلسلة من الاعترافات التي تستعرضها عاتقة حول حياتها في اليمن. تدرك عاتقة تشابها بين شقيقها خالد (المقتول) وبين الطبيب فيما يتعلق بالهويته الجنسية. حديث طويل تتحول فيه عاتقة بدورها إلى مستجوبة للطبيب فيكشف هذا الأخير عن هويته الجنسية وتسترسل عاتقة في الحديث عن الذكورية وهيمنتها على الأنثى وتعتبر أن الأطفال هم السلاح الوحيد لمواجهة هذه الذكورة الطغيانية وذلك بوجوب عتقهم عبر وضع حد لآلة النسل. ويختم المشهد بتواري عاتقة في الخيمة البلاستيكية صارخة بوجوب تعقيم النساء…
في مكتب التحقيق يبدأ المشهد الثامن يحاول حمادي غواية القاضية بباقة ورد بلاستيكية. فتستجوبه على ملابسات رحلته إلى صنعاء وقصية المخطوط وحيثيات تعرفه على عاتقة والهروب بها والتزوج والإنجاب منها والزهد فيها بعد ذلك وإهمالها، ثم حول تورطه في قتل شقيقها وانكاره ذلك متهما عاتقة بالمرض النفسي والانهيار العصبي المزمن. ينتهي المشهد بينهما بالتهديد المتبادل، فحمادي يرى القاضية متحيزة ضده وتعتبره هي فالت من العدالة…
وتنتصب الذروة في المشهد التاسع، في لقاء أخير بين عاتقة وحمادي، لقاء للمحاسبة المتبادلة. لقاء الصاخب بين عشيقين مكتظ بالعاطفة والحنين والكراهية والعنف والندم والهذيان. مشهد يستعيد لحظات اللقاء الأول في صنعاء. مشهد يُذكّر بلعنة المخطوط ولعنة خيانة العهد الذي كان بينهما. مشهد اللقاء المؤجل للموازنة بين الضحية والجلاد… تعود القاضية إلى الاستنطاق المتهمة مرة أخرى في المشهد العاشر، تجريه القاضية مع عاتقة. محاولة تحويل هذه الاستنطاق في اتجاه توريط طليقها في سياق عملية إرهابية وتحريضها عليه في اتهامه بقتل أخيها وتعدها بمساعدتها في التخفيف من حكم القضاء. عاتقة ترفض ذلك وتكشف عن نوايا القاضية في استغلال قضيتها. القاضية تخبرها بأن التقرير الشرعي يؤكد على أن الطفلين لم يموتا بالغرق وإنما بالتغريق واستجابة لأسئلة القاضية تسرد عاتقة عملية التغريق تلك بتفاصيلها…
تظهر المحامية في المشهد الحادي عشر، للقاء منوّبتها ولومها على الاعتراف بكل شيء. المحامية قد أدركت أن رهاناتها في استثمار هذه القضية وتوظيفها ضمن نضالها النسوي قد تبخرت وتبخر معها النموذج الأمثل للمرأة المضطهدة وندرك ذلك من خلال استرسال المحامية في خطابها الإنشائي حول المسألة النسوية وخيبة أملها في وعود الثورة التونسية التي لم تتحقق وعن مأساة اليمن وسردية نظرية المؤامرة، وفي الأثناء وطوال خطابات المحامية تنهمك عاتقة باللعب بزوارق ورقية… يأتي المشهد الثاني عشر، بين الطبيب والقاضية ندرك فيه أن العلاقة الحميمة بينهما. يخبر الطبيب القاضية بالهجوم الذي حدث لعاتقة في مستشفى الأمراض العقلية في محاولة قتلها ونجاتها من ذلك. القاضية على علم بمن قام بذلك حيث أن جماعة من اليمن اقتحموا المستشفى بحثا عن عاتقة التي يبدي الطبيب تعاطفه معها محاولا تبرير فعلتها بأنها تعاني من “ساندروم ميديا ” وأن لا مسؤولية لها في جريمتها وتعتبر القاضية تشخيصه قفزا على القوانين…
وفي المشهد الثالث عشر، سعيا لكتابة تقرير طبي قد يساهم في حماية عاتقة من السجن أو الإعدام سعى الطبيب لمقابلة طليقها لمعرفة طبيعة علاقته بعاتقة قبل ارتكاب جريمتها فنكتشف ما كانت تعانيه من انهيار عصبي وعدم قدرتها على تسيير شؤون بيت الزوجية وعلاقتها بأطفالها، وعن كوابيسها التي كانت تحوم حول علاقتها بشقيقها الذي قتله. كما نتعرف بينهما على تفاصيل أخرى من حياة حمادي بخصوص طفولته الشقية وفشله في الدراسة وينتهي المشهد فجأة بانتحار حمادي بإطلاق النار على نفسه…
ثم يأتي خاتم المشاهد وهو الرابع عشر، بين الطبيب وعاتقة في المستشفى. يحاول الطبيب مرة أخرى الاستمرار في استكمال رسم حالة عاتقة النفسية والذهنية لاستكمال كتابة تقريره الطبي. يسألها الطبيب عن حلمها فتطالبه بقطعة قميص ابنها هادي التي علقت بأسورتها. يتورط الطبيب في وحل إجاباتها بخصوص دوافعها في قتل طفليها وشعورها أو عدمه بالندم والخوف من الإعدام. ونكتشف في هذا السياق طبيعة علاقتها بأمها وشقيقها ووالدها المتوحش. تنهي عاتقة المحاورة وتغادر المكان في اتجاه البحر فيسألها الطبيب إلى أين هي ذاهبة فتجيبه: ” ألحق عيالي”.
(يتبع في العدد القادم)