بقلم: عبد الحليم المسعودي
“آخر البحر”، أثر يخفي بأثر
الناظر في متن هذه المشاهد في “آخر البحر” سيدرك عملية التدبير التي قام المؤلف لاستحضار ميدياه المضارعة أمام المتلقي من عمق السردية الأركاييكية. لعلنا قد أشرنا في البداية إلى أن المشهد الأول قد شكل مشهدا واصلا وفاصلا بين سردية ميديا التراجيديا وبين سردية مسرحية “آخر البحر”.
لكن هذا الفصل الذي أراده الجعايبي مع ميديا يوريبيدس لم يكن إلا فاصلا نسبيا إن لم يكن واصلا خفيا. ويمكن أن نلمس عناصره كل مرّة كلما تقدّمنا في مسار السردية الجعائبية. وهو ما يعني أن المؤلف عمد على الاتكاء على المواد الخام اليوريبيدية لبناء صرحه الدرامي وإعادة ترتيبها، وذلك بالاعتماد على تكنيك الإبدال في أسماء الشخصيات كأن يُحوّلَ ميديا (Médée) إلى “عاتقة” اليمنية، وأن يُحوّل “جازون” (Jason) إلى التونسي “حمادي الجازي” وأن يُحوّل “كريون” (Créon) الحاضر الغائب إلى “جلول التبريزي” العرّاب المايفوي ، ويُحوّل “غلوكي” (Glaucé) (أو كريوسا Créuse) ابنة كريون الحاضرة الغائبة إلى “بسمة” ابنة جلول التبريزي، ويُحوّل “أبسيرت” (Apsyrte)شقيق ميديا المقتول مزقا مزقا في السفينة، وهو الحاضر الغائب أيضا، إلى “خالد” شقيق “عاتقة” المقتول أيضا و الذي تنعته بالمخنوث ، وأن يُحوّل “إياتيس” (Éétès) والد “ميديا” إلى الشيخ موسى سليمان الهاجري صاحب المكتبة في صنعاء والد “عاتقة” ومغتصب والدتها، ويمكن حتى اعتبار والدة “عاتقة” التي فاضت روحها على الشاطئ في اليمن هي “إيديا” (Idyie) الحورية والدة “ميديا” و علاقتها العضوية بالبحر .
وهذا الإبدال بدوره يجري أيضا على الشخصيات من تراجيديا يوريبيديس إلى دراما الجعايبي وسيجر في طياته إبدالا آخر في الجغرافيا والأمكنة بالضرورة، وهو ما يمكن التدليل عليه على نحو إبدال بلاد “ميديا” كولشيد (Colchide) البرابرية ببلاد اليمن السعيد، وإبدال كورانثيا (Corinthe) بتونس الحاضرة، وإبدال البحر الأسود (la Mer Noire) بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب اليمني. كما يجري هذا الإبدال إلى جانب الشخصيات والأماكن على عناصر مفاتيح في التراجيديا اليوريبيدية حين تتحول هذه العناصر المفاتيح في الدراما الجعائبية إلى مسمّيات أخرى لكنها تؤدي نفس الوظيفة فتتحوّل مثلا “الجزّة الذهبية” (le toison d’or) إلى مخطوط قرآن من القرن الأول، وتتحوّل هدية “ميديا” المسمومة إلى عروس جازون من إكليل (le diadème) وفستان فاخر قشيب إلى قلادة وفستان مُفخّخ.
وإلى جانب هذا الإبدال الذي توخاه الجعايبي في تغيير الأسماء والأماكن والأغراض بأسماء وأماكن وأغراض جديدة يعمد المؤلف في هذه الدراماتورجيا إلى نوع من تكنيك الانتشار أو التشتيت (Dissémination) بالمعنى الذي يذهب إليه جاك ديريدا Jacques Derrida ، ومفاد هذا الانتشار والتشتيت هو أن الدراماتورج وهو يحاول التغلب على السردية الأصل وتذويبها من أجل تقويضها (Déconstruction) عبر تحقيق فاعلية الدلالة الراهنية، كما يعمد إلى تصريف مفاصل الحكاية الأصلية لميديا من خلال تفعيل تناسلها المتكرر مع المعاني الجديدة المعاصرة و الممكنة، كأن ينزع إلى تصريف الطبيعة الغامضة لميديا وتوحشها وعلاقتها العضوية بالقوى المظلمة وبالسحر إلى سلسلة من الاتهامات تطال “عاتقة” اليمنية من تطرف و شبهة بالإرهاب وشيطنة ميزوجينية ووصمها بالجنون والمرض العصبي و ذلك ضمن سياق الصراع الزوجي المألوف بينها وبين زوجها حمادي الجازي أو اعتبار عدم انضباطها للقوانين و اختراقها (قوانين البوليس) راجع كما عبرت عن ذلك القاضية لقلة ثقتها في القضاء التونسي ومعاداة لمبادئ التي نادت بها الثورة التونسية ومن ذلك استثمار المعنى وفتحه بشكل تناسلي على بناء سردية أيديولوجية وسياسية حقوقية تصل إلى حد السخرية السوداء حول الأوضاع في المجتمع التونسي بعد الثورة، أو مثلما هو الحال في الانطلاق من لعنة “ميديا”/”عاتقة” للرحم الإنجابي انتقاما من “جازون”/”الجازي” يتم تحويله لبناء خطاب حول السلطة الذكورية في الخطاب النسوي و الجندري أو الانطلاق من علاقة ميديا /عاتقة بشقيقها يكون منطلق في تفعيل بناء خطاب الاختلاف في الهوية الجنسية و المثلية.
وإلى جانب هذا الإبدال وهذا الانتشار والتشتيت الذي أشرنا إليه عمدت العملية الدراماتورجية أيضا في “آخر البحر” إلى تذويب سردية أخرى في سردية الأثر الأصل (سردية ميديا التراجيدية)، ولا ندري إن كان ذلك من باب التّناص (Intertextualité) أو من الانتحال (Plagéat). ونحن نرجّح باب التّناص على باب الانتحال لا لاعتبارات أخلاقية أو اتهامية بقدر اعتبارنا وتفهمنا لطبيعة العمل والتدبير الدراماتورجي الذي ينطلق عادة من “مواد خام” (Matériaux)يصنع منها لبنات الصرح الدراماتورجي. كنا قد أشرنا إلى قراءة “العلامة المائية” بخصوص قراءة ميديا يوربيدس في مسرحية “آخر البحر” وكأننا نقرأ الأوديسة في رواية جامس جويس. وعلى أساس هذه الإشارة تنتصب أمامنا ظاهرة هذا التّناص في مسرحية “آخر البحر” مع نص روائي تونسي هو رواية “قيامة الحشاشين” للروائي الهادي التيمومي (13).
فمسرحية “أخر البحر” تستعيد بشكل ما جملة من العناصر الأساسية لهذه الرواية التي تروي تورط أستاذ تاريخ تونسي في الحصول على مخطوط باطني لفرقة الحشاشين من مكتبة أحد الشيوخ في صنعاء من أتباع هذه الفرقة الباطنية والعودة به إلى تونس وحلول لعنة المخطوط على هذا الأستاذ الباحث وتعرضه إلى مطاردات من أفراد فرقة هذه الجماعة الباطنية “البهرة” ومحاولة قتله. كما أن قصة الحب بين عاتقة وبين حمادي الجازي مشابهة لقصة الحب بين بنت شيخ الجيل الحسن الصباح وبين الشاب السّني القيرواني. وقارئ الرواية سيدرك وهو يقرأ أو يشاهد مسرحية “آخر البحر ” مدى التماثل والتشابه بين الأثر المسرحي والأثر الروائي.
وفي سياق هذا التّناص أيضا نقف على صور سردية أخرى مستلفة من نصوص سابقة لمسرحية “آخر البحر”. ففي الحلم المتكرر الذي تراه عاتقة كل مرة في فترة انهيارها النفسي كما يرويه زوجها حمادي الجازي على مسامع الطبيب النفسي بأنها: ” تحلم بخوها الميبون إللي قتلته /باش تمنع راسها / …/ يرضع فيها من صدرها / وفمه كلو حليب ودم/ ثم ينقلب إلى حنش / يتلهوث على رقبتها /يقطع عليها النفس …” (14) فإن صورة هذا الحلم هي نفس صورة الحلم الذي نجده عند اسخيلوس Eschyle في مسرحية “حاملات القرابين” Les Choéphores الذي ترويه الجوقة على لسان كليتمنسترا Clytemnestre متحدثة عن ابنها “أورست” Oreste الذي كان تراه ثعبانا يرضع من ثديها و إشارة أيضا إلى حتفها الذي سوف يكون على يده .
وإلى جانب ذلك أيضا نجد الصورة التي تصف بها عاتقة رأس أخيها المقتول وهو يتحرج بين قدميها وهي في لحظة المضاجعة مع حمادي في جوف السفينة حين تقول في المشهد الخامس: “… وأنا نزلني تحت القبو /وضاجعني/ وأحنا نتضاجع /ونرى في راس خويا / يتكركب / بين ساقينا / عينيه مرشوقة فيّا /وفمّه يضحك …” هذه الصورة نجدها أيضا في نص “ميديا” Medea للكاتب المسرحي الألماني هانس هاني يان Hans Jenny Jahnn الذي كتبه عام 1920 الذي يشير فيه الكاتب تقريبا بنفس هذه الصورة المتوحشة على لسان ميديا وهي تحدث جازون (14).
وإلى جانب كل ذلك فيما يتعلق بالتّناص في مسرحية “آخر البحر” من الواجب أيضا التذكير بحضور النص القرآني وسرديته في هذه المسرحية فيما يتعلق بين التماثل بين عملية “انقاذ”/تغريق عاتقة لطفليها في البحر وبين انقاذ أم موسى للنبي موسى طفلا حين ألقته في اليم واستحضار ذلك أيضا هو في قلب عملية التناص.
ميديا لماذا الآن؟
وأمام هذا الانتشار والتشتيت، وأمام هذا اللبوس الإبدالي، وكذلك أمام هذا التناص الجلي يمكن أن نعتبر أنه قد أجبنا حول الكيفية التي “استدرج ” بها الجعايبي سردية ميديا وأنزلها منزلة السياق الراهني. ويبدو أن أن هذا الاستدراج أو “العصرنة” لميديا وتحويلها إلى حالة راهنة لم تتم في الحقيقة إلا من خلال تجريد ميديا – الأرخيتيب من كل ما يجعلها أرخيتيبا، أي نزع كل أسلحتها القديمة وتجريدها من صفتها الإلهية التي تكون بها كائنا علويا وتراجيديا في آن. وهو ديدن كل من قارب دراماتورجيا في عصورنا الحديثة النماذج التراجيدية. والتي يرى في هذه النماذج أصواتا خفية قادرة على رواية قصة هذا الحاضر. غير أن هذه الكيفية – أي كيفية العصرنة – لا تكون في المحصلة إلا التعبير الأليم للقراءة الراهنة التي يقوم بها القارئ أو المفسر المعاصر للتراجيديا نفسها، أو كما يقول جورج شتاينر Georges Steiner في حديثه عن قراءة التراجيديا – في نموذج أنتيغون عنده – هو ذلك “الفهم المتأرجح بين قطب الآني و بين قطب المنفلت” (15) .
وهذا الذي قام به الجعايبي ليس بالأمر الهين لأنه متحاوز لمجرد إخضاع الحالة إخضاعها لإكراهات المحاسبة والمساءلة والتحقيق وحتى التحليل والفهم، وهو ما يدل عليه استقراء المشاهد جميعها التي تشكل هيكلية هذا المتن الدرامي الموغلا في التركيب. وهو ما يعني أن الجعايبي على قناعة من أنه بالإمكان محاسبة وفق شروط التيار الواقعي أو الطبيعي أو المادي الجدلي شخصية تراجيدية ثقيلة وموغلة في الظلمة اللاتاريخية مثل شخصية ميديا وتجريدها من رأسمالها الأساسي وهو جانبها أو جوهرها الإلهي والذي تكون به تراجيدية.
“آخر البحر”، الفرجة
عرض مسرحية “آخر البحر” عرض يبدأ ولا يبدأ، وهو أيضا عرض ينتهي ولا ينتهي. لكأنه يضع المتلقي على عتبة الرحيل أو العودة. ذاك ما نلمسه لأول وهلة حين ندخل قاعة العرض فكأن العرض بدأ وانتهى في ذات الوقت. في قاعة الفن الرابع وعلى ركحها لا شيء يلفت الانتباه غير شاشة كبيرة على اتساع إطار جدار خلفية الركح حيث تبث صورة فيديو متحركة لموج بحري على شاطئ ما. شاطئ يمكن أن يكون في أي مكان. شاطئ بديهي، عادي لا هو بالمنظر السياحي ولا هو بالصورة الإغزوتيكية المستجدية للغرابة، ولا هو بالمنظر الباروكي أو العجائبي ..شاطئ خلفي وذهني وتجريدي يكاد يكون لا وجود له في الحقيقة السينوغرافية، شاطي خلفي في تنافر حقيقي مع البعدية الثلاثية للركح، شاطئ نشاز، مستفز في استحواذه على الإطار الخلفي ومنقطع مع أي تواطئ بصري يمكن أن يقيمه المتلقي مع بقية المشهد فوق الركح.
والأمر صادم للوهلة الأولى ومدعاة للسخرية من بدائية أو سذاجة الإخراج الذي لم يعتمد مرة واحدة ولم يتكئ في مسيرته الاحترافية الطويلة على متمم من متممات التكنولوجيا المستشرية في إخراجات مسارح ما بعد الدرامي… هو صورة الفيديو لمشهد بحر الشاطئ في خلفية الركح مشهد مستفز يوحي للوهلة الأولى بقلة ذوق تكاد تلمس الكيتش (kitsch) وتكاد تشفق على المخرج من سذاجة هذا الاختيار، بل تشفق من سذاجتك كمتلق. كسر الإخراج منذ الملامسة الأولى لمشهد الركح قوس ذاك الجسر الجمالي الذي شيد منذ سنين بينه وبين تلك الجمالية الجعائبية طوال سلسلة طويلة من الأعمال. ولكن حين ينطلق العرض ويبدأ الشريط الخلفي لأمواج الشاطئ في التبدل والتلون ستدرك أن هذا الاختيار لم يكن ساذجا بل كان اختيارا متعمّدا له علاقة أخرى لا علاقة لها بسينوغرافيا ممكنة.
الهوامش والإحالات
(13) – أنظر رواية ” قيامة الحشاشين ” للهادي التيمومي، مسكلياني، تونس 2020.
(14) – Hans Henny Jahnn, Medea , (in) Jean – Claude Ranger , Violence, nature et divin chez Médée,(in) Pallas 45, 1996,pp, 229- 294.(15) – Georges Banu ,Le théâtre ou l’instant habité, L’Herne , Paris 1993,p,138.