بقلم : عبد الحليم المسعودي
الـــــــــــ Homo Sacer أو ترميم الأنوثة
لا شك أن الجعايبي يدرك حجم كثافة الظلمة الذي تَكْتَنِفُ ميثولوجيته الجديدة “عاتقة” التي لم تبح بكل أسرارها. ولا شك أيضا أنه يُقّر بعجز المقاربة النفسية تحليلا وتطبيبا نفسيا في الإحاطة بهذا الكائن الفينومونولوجي الذي تمثله “عاتقة” بثقلها الثقافي والأنثروبولوجي المجهول. لكن الثابت أن الجعايبي يتقصّد جعل هذه الميثولوجيا الجديدة عصيّة عن الفهم ومٌغرية لمزيد من الحفر في هذا النموذج الفريد الذي يحيل على الموقع الحقيقي والمُغيّب للمرأة ودورها في مجتمعات ما بعد الكولونيالية والتّثبت من صحّة أو زيف الخطاب (أو الخطابات) حول المرأة.
ومهما يكن من أمر، فليس بالإمكان اليوم لإنسان سويّ في سياق مجتمع أو ثقافة سويّة يمكن أن يتماهى مع نموذج “عاتقة”، حتّى وإن كانت تُشكّل هذا النموذج المكلّل بالسّحر والغواية والقوّة التي لا تُقاوم.
فكل القوانين الطبيعية والدينية ترفض رفضا قطعيا هذا النموذج القاتل أو الآثم الذي يُلغي أحقية الحياة (قتل الأبناء) ويرفض استمراريتها (قطع الأرحام). وعليه فإن هذه “العاتقة” باعتبارها قد تحوّلت إلى ميثولوجيا جديدة معاصرة (على الأقل على المستوى الدرامي المسرحي) قد حُقّ لها التواجدُ في هذا السّياق الاجتماعي من خلال هذه الميثولوجيا الجديدة في شكل في مثير للقلق لأنه تواجد ملتبس بالأساس بالمقدّس، ولأن فعل قتل الأبناء كحدث اجتماعي عائلي، ومهما كان التسلح بالعقلانية وبالمقاربات الموضوعية “الباردة” لتحديد حواف هذا الفعل (فعل القتل)، فإنه لا يمكن التنصّل في استيعاب هذا الفعل و تمثّله خارج دائرة المقدّس (Le sacré) . وهو ما يحوّل الجاني مرتكب فعل القتل (قتل أطفاله) مكتسبا هالة من القداسة المثيرة للقلق والخوف. فهذه “العاتقة” اكتسبت نموذج “المنبوذ” أو “الكائن المقدس” (l’Homo Sacer) بالمعنى الذي يشير إليه الفيلسوف جورج أغامبن Giorgio Agamben والذي يعني تحوّله إلى كائن “ مهيب وملعون وفي نفس الوقت جدير بالتقدير ومثير للرّعب ” (21).
وبهذا المعنى فإن “عاتقة” الجعايبي تتحوّل إلى مرتبة “المنبوذ” (22) الذي يشكل نوعا من الالتباس في مفهوم المقدس نفسه الذي يجعل منه كبش فداء (Bouc émissaire) سواء بمحاكمته أو بالتخلص منه بالقتل (الإعدام) كضرورة اجتماعية لدرء الشر ولصدّ الفتنة وإرباك النواميس وفي نفس الوقت يحوّله إلى معيار للتشكيك في أحقية القوانين وأصالة الوعي الجمعي والاحتجاج على النظام الأخلاقي والسلطوي (الأبوي) الذي أوصل هذا النموذج إلى مرتبة “المنبوذ”.
ومهما يكن من أمر فلا يكفي أن نرى في “عاتقة” امرأة مغدورة تنتقم أو زوجة مخدوعة ترد الفعل من خلال الغضب الأعمى، أو مجرّد بطل تراجيدي لامس الشطط أو “الهيبريس” (Hybris)حسب الفهم الأرسطي لفعل البطل التراجيدي، بل أنها في هذه الميثولوجيا الجديدة التي اجترحها الجعايبي تدعونا إلى إعادة النظر في أوجه أخرى خفيّة لـ “عاتقة”، أي في أوجه أركاييكية لا من ناحية انتسابها لـ “ميديا” بقدر اتصالها أنثروبولوجيا بعالم آخر باطني متعلق بنظام بناء الأنوثة ومن خلفها الأمومة في الحضارة التي تنسب إليها.
ويبدو أن “عاتقة” هذه تدعونا إلى إعادة النظر في أسطورة الذكورة التي قامت عليها كل السردية الحضارية في النموذج الشرقي ووجوب استدعاء فجر المجتمعات الأمومية المندثرة تحت وطأة وهيمنة النظام الأبوي. فمن الواجب النظر في الخطاب الصرخة المفزعة التي تطلقها “عاتقة” في المسرحية حول “الذكر” حين تسأل الطبيب:
“… وإنت ماعندكش/ مشكلة مع الذّكر/وأمّك ماعندهاش /مشكلة مع الذّكر/وأختك /وأبوك الذّكر ما عندﻩ /مشكلة مع الذّكر/ما فمّة حتّى فكرة /ما نتعارضش فيها مع الذّكر/في هالدّنيا الكلبة…” (23) لنتمثل حجم المعركة المؤجلة مع الفحولة الباطرياركية في التاريخ الثقيل الذي يصنع قدرية الجماعات البشرية ويهندس معمار نظام القرابة فيه وبناء المخيال والذهنيات والأفكار الوثوقية والمعتقدات والاقتصاد السياسي والرمزي على حساب الأنثى التي تظل في كل الحالات “كبش الفداء” يقدم على مذبح الفحولة بطغيانيتها ونفاقها العقدي.
هذا ما تصرخ به “عاتقة” الضمير المحرّم حين تعيد بناء الأنوثة أو ترميمها على أنقاض الإرث الثقيل لدور الرجل – الذكر في بناء الحضارة البشرية على حساب كينونة المرأة – الأنثى:”
لأن الرّاجلْ بنى العالمْ/ على حساب قياسَهْ/ أفكارهْ /قوانينَهْ/ القيم حقّه/ مصالحهْ مخاوفهْ مثانته البولية/ ذكوريتَهْ البحتة/ التي لا تناقشْ/ و لا تباعْ و لا تشترى/ تقبِل هكذا /كما سنّها و فرضها/ على الكبيرْ والصغيرْ /و خاصة على المرأة/ العورة /القاصِرة زريعة إبليسْ/ في بلادكم و الحٌرمة في بلادنا/ التاريخ صنعوه الرّجال على حساب النساء/ المُقدسْ و المُدنسْ /خلقوه/ وضعُوه/ و فرضُوه/ الحرام/ العِيبْ/ الممنوعْ/ بأنواعه و أشكاله/ الأخلاقي/ و اللاّأخلاقي/ كلها صنيعة الذكر /الأفكار / الحكم / القانون / العادات/ القرارات/ كلها طريزتك يا ذكر /…”(24).
الناظر في هذا الخطاب على لسان “عاتقة” قد ينجرّ وراء هذا الخطاب السهل الذي يحصر العلاقة بين الذكورة والأنوثة في هذا الصدام القديم والأبدي بين الجنسين، فهذا الخطاب قد يكون لمباشرتيته خطابا مكرورا قام عليه الخطاب النسوي في صيغته الشعبوية الذي يؤكد على هذه “الثنوية” (manichéisme)التقليدية في تناول الصراع بين الأنوثة الذكورة … هذا ما يبدو للوهلة الأولى. لكن خطاب “عاتقة” يخبئ في الحقيقة خطابا آخر أكثر تعقيدا يحوم حول إعادة الاعتبار لا للأنوثة من حيث هي غيرية ضديدة للذكورة بل للأنوثة من حيث هي مبدأ أصلي ثابت ومغيّب تمّ التخلي عنه تاريخيا ومبكرا عند ابتكار السّياسي(le politique) في المجتمعات البشرية الذي جاء ترويضا للعنف وإدارة الصراعات والأزمات، وهو ابتكار جاء على حساب طرد المرأة من دائرة السياسي ولدينا في أطروحة الباحثة نيكول لورو Nicole Loraux ما يفسر هذا التحول من دائرة القرابة إلى دائرة السياسي في مسألة التمييز في الجنس (25) .
ولا غرابة أن “عاتقة” تذكرنا في لحظة تجل ونفس مُفاخر بتاريخ انتمائها الذي لا يخلو من صور شعرية ملحمية بذلك التناغم (le symbiose) أو الألفة المفقودة بين الأنوثة والذكورة في العلاقات الزوجية في اليمن التقليدي حين ترسم لنا صورة أخرى مختلفة بامتياز لهذه العلاقة بين الأنوثة والذكورة أو تحديدا لعلاقة المرأة والرجل وضمن كودات متفق عليها خارج معيار تلك الثنوية التي أشرنا إليها، فالمرأة والرجل في اليمن في اتحاد عضوي واحد زمن الأزمات و الحروب و كل مكمل للآخر لا يستمد الواحد قوّته إلا منه ، وكأن أكليل الغار الذي بينهما هو الرباط المقدّس أو القسم السريّ لهذه العلاقة الذي يذوب فيها الواحد بالآخر خلال اختلاط العرق والدم والعطر والمني في مغامرة العيش المشترك، وذلك عندما تستعيد “عاتقة” على أسماعنا وهي تصف لنا فضائل غصن الغار أو اللاورا لحظة الإنصهار العنيف بين المرأة و الرّجل حين تقول:
” رندة/لاورة/أوراق سيّدنا موسى /مباركة…من عمر الإنسان/في القديم كانو النساء/يبخّرو بها منازلهم لطرد الحزن/يغلونها كمسكّنات/من الألم والأرق/يستخلصو منها العطور/ويقطّرو منها الزّيوت/يدْهنُو بيها شعرهم/و ينسجُو منها تيجانْ وأكاليل/يحضّروها لرجالهم المروحيّن مالحرب/رمزيّة للإنتصار والعزة والقوّة/يجي الرّاجل بعرق وغبار المعارك وإيديه مازالو بالدّمْ/تعرّض له المرأة في إيديها تاج/هي تقرب له باش تحطّل له التاج/وهو يخطفها من شعرها/ويحشي لها رأسها بين ساقيه/ويرفع عينيه للسماء/يحلم بالانتصار والمستقبل/ويشمّ في عطر اللّاورا/وهي عينيها مغمومين/تبلع وتغصّ وتشمّ في ريحة العرق/والدّم والمنيّ ” (26).
(يتبع)
الهوامش والإحالات
(21) – Giorgio Agamben, Homo Sacer, L’integrale 1997- 2015, Coll. Opus, Seuil, Paris 2016, p, 69.
(22) – يترجم الفيلسوف التونسي عبد العزيز العيادي مفهوم Homo Sacer لـعبارة أو صفة منبوذ في ترجمته لجزء من أطروحة جيورجيو أغامبن، أنظر ترجمته: جيورجيو أغامبن، المنبوذ، السلطة السياسية والحياة العارية، منشورات الجمل، بغداد – بيروت 2017.
(23) – الفاضل الجعايبي، نص “آخر البحر”.
(24) – نفس المصدر.
(25) – Irène Théry, La Distinction de sexe, Une nouvelle approche de l’égalité, Odile Jacob, Paris, 2007, pp,316 – 320 .
(26) – الفاضل الجعايبي، نص “آخر البحر”.