الموسيقار د. محمد الڤَرفي
كانت اتفاقية الإبادة الجماعية أول معاهدة لحقوق الإنسان اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948 وأظهرت التزام المجتمع الدولي بعدم السماح أبدًا بارتكاب فظائع مثل تلك التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية.
وتحتفل الأمم المتحدة في 9 ديسمبر من كل عام باعتماد اتفاقية الإبادة الجماعية وهو أيضًا اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا جريمة الإبادة الجماعية وتأكيد كرامتهم ومنع هذه الجريمة.
تنص اتفاقية جينيف لعام 1951 على منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وتؤكد الأطراف المتعاقدة أن الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أوقات السلم أو في أوقات الحرب، هي جريمة بموجب القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها.
تعني الإبادة الجماعية التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية.
وظهر المصطلح خلال الحرب العالمية الثانية عندما وصّف الفقيه القانوني اليهودي البولندي رافائيل ليمكين Raphael Lemkin (1900-1950) في عام 1944 ما وقع لإخوانه في الدين بأوروبا وأسماها “ممارسة إبادة الأمم والجماعات العرقية”.
واستخدم المصطلح لاحقًا بأثر رجعي للإشارة إلى المذبحة المنهجية لقبائل “هيريرو” و”ناما” في ناميبيا (1904-1908) جنوب غرب أفريقيا الألمانية سابقا، ومذبحة الأرمن على يد الأتراك (1915-1916)، ثم مذبحة التوتسي في رواندا (1994).
ما فعله الألمان في قبائل هيريرو بنامبيبيا
بين عام 1904 وعام 1908 في ناميبيا الحالية والتي كانت مستعمرة ألمانية وقعت إبادة جماعية لقبائل هيريرو وناما ذهب ضحيتها السكان الأصليون الذين ثاروا ضد المستوطنين الألمان وتجاوزاتهم المسيئة وبلغ عددهم 60.000 من الهيريرو (80 بالمائة) و10.000 من الناما (50 بالمائة).
وتعتبر هذه المجازر أول إبادة جماعية معترف بها في القرن العشرين دون الإبادات التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية مدة خمسمائة عام في حق الهنود الحمر لبناء دولتها الهجينة واكتفى الرئيس السابق أوباما بالاعتذار لهم رسميا عام 2008 لأغراض انتخابية.
فقد أصدر الجنرال الألماني Lothar von Trotha يوم 2 أكتوبر 1904 أمرا بالإبادة Vernichtungsbefehl يقضي بقتل أي فرد من هيريرو يوجد فوق “الأراضي الألمانية”.
فقام الجنود الألمان بذبح المدنيين بمن فيهم أولئك الذين لم يشاركوا في الحرب.
وبعد تدخّل المبشّرين تم رفع الأمر وحبس الناجين في معسكرات الاعتقال وإجبارهم على الأشغال الشاقة.
بعد ذلك جاء دور قبائل ناما الذين واصلوا نهج أبناء وطنهم وتصدوا للمستوطنين الألمان وحرقوا مزارعهم فلقوا نفس المصير وتم احتجاز الناجين في معسكر الاعتقال الشهير جزيرة القروش Shark Island.
والمتمعّن في الأحداث يجد أن ما يقع يوميا في فلسطين منذ ستة أشهر على يد الصهاينة لا يختلف عن الفظائع التي ارتكبتها جيوش غازية في سالف التاريخ سوى من حيث حجم الخسائر ونوعية السلاح المستخدم باعتبار فارق الزمن ونسق التطور العام.
من ذلك مثلا ما رواه المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي Diodore de Sicile (القرن I) عن حرب الإسكندر المقدوني ضد مدينة صور الفينيقية (332 ق م) بعد أن حاصرها سبعة أشهر ثم اقتحمها وأباد من فيها:
حصار صور كما تصوره الرسام الانكليزي Ernest Prater
“.. لكن أهالي صور جمّعوا قواهم وتحصّنوا بالشوارع، فذُبّح أغلبهم وكان عددهم أكثر من سبعة آلاف.
وباع الإسكندر النساء والأطفال بالمزاد، وشنق كل الشبان وكان عددهم على الأقل ألفين.
ورغم أن أغلبية السكان رُحّلوا إلى قرطاج، فإن عدد الأسرى كان كبيرا ولا يقل عن الثلاثة عشر ألف”.
واليوم، لا تزال قوى الاستعمار القديم الجديد من دول أوروبا والحلف الأطلسي تتردد في وصف المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة إبادة جماعية رغم أن عدد الضحايا تجاوز المائة ألف من المدنيين العزّل أطفالا وشيوخا ونساء.
ولا يزال الفيلم مسترسلا، وتفريغ جثامين الشهداء من الأعضاء الحيوية متواصلا بكل وقاحة وبنو يعرب و”العالم الحر” يتفرّجون ويستمتعون.
(يتبع)