الموسيقار د. محمد الڤَرفي
سلفاتور عَرنِيطة (1914-1984) من مواليد القدس هو أحد روّاد الموسيقى البوليفونية في فلسطين ومن أبرز تلاميذ الرائد الأول أوغسطين لاما الذي كان عازف الأرغن الرئيسي في جميع الكنائس الكاثوليكية بالأرض المقدسة ورائد النهضة الموسيقية الحديثة في فلسطين ومؤلفا كلاسيكيا استثنائيا.
كان عرنيطة واعدا منذ البداية إذ شغل خطة عازف مساعد على الأرغن في كنيسة القيامة بالقدس وهو في سن الحادية عشر.
وفي السادسة عشرة التحق بالإسكندرية عازفا على الأرغن وقائدا لجوقة الإنشاد في كاتدرائية القديسة كاترين الرومانية الكاثوليكية.
عام 1934 حصل على منحة لدراسة الموسيقى في إيطاليا بأكاديمية Santa Cecilia الوطنية بروما حيث درس البيانو والتأليف الموسيقي على يد الموسيقار Alfredo Cassella (1883-1947) وأتقن العزف على الأرغن تحت إشراف العازف الشهير Fernando Germani (1906-1998).
بعد عام من تخرجه واصل تعلّمه في مدرسةGuildhall School للموسيقى والدراما بلندن حيث باشر التدريس أيضا.
سنة 1937 عاد إلى القدس ليمارس نشاطا متنوعا بين التأليف وقيادة الأركسترا وتم تعيينه مديرًا موسيقيا لجمعية الشبان المسيحية YMCA وكان أيضا مديرا لأوركسترا محطة إذاعة فلسطين.
وكان يعتز بأنه العربي الوحيد الذي قاد أوركسترا فلسطين وكان اليهود يمثلون تسعين في المائة من أعضائه.
كان الأرغن الذي عزفه عرنيطة بالقدس هو الأكبر في الشرق الأوسط ويضم 3600 أنبوبًا وبرج أجراس carillon (آلة تضم مجموعة أجراس ذات أنعام مختلفة).
وروى تلاميذه أنه حين عزف على هذه الآلة في برج الجرس بالقدس (هيكل يحتوي على أجراس للرنين تكون جزءا من برج الناقوس في الكنيسة) دقت الموسيقى في أرجاء المدينة مما أثار الرهبة في قلوب سكانها.
بقي عرنيطة مديراً للموسيقى في جمعية الشبان المسيحية حتى عام 1948 كما تولى التدريس في ثانوية “بير زيت” وكلّيتها من عام 1939 إلى عام 1946 حيث درّس العزف على البيانو وأشرف على تدريب الجوقة الغنائية.
وفي كل حفل تخرج كان يقدّم أغنية جديدة ومقطوعات موسيقية من تلحينه أغلبها أغانٍ وطنية.
عام 1947 تزوّج من عالمة الموسيقى يسرى جوهرية ابنة عازف العود المقدسي الشهير واصف جوهرية (1897-1973) وهو موسيقي ومدوّن مذكرات قدّم وصفًا قيّما للحياة في القدس من أواخر العهد العثماني حتى فترة الانتداب البريطاني.
وإثر حرب 1948 أجبر الزوجان على مغادرة الوطن واللجوء إلى لبنان حيث استقرّا للتدريس في الجامعة الأمريكية.
1982 : عرنيطة يقود أوركسترا الجامعة الأمريكية ببيروت
ومن مشاريعهما المشتركة ألّفا ألبوما للأطفال بعنوان “شادي وشادية” يحتوي على أغاني وألحان لأطفال ما قبل المدرسة والصف الأول والثاني، كما كتبا دليلا لمعلمي الموسيقى مع شرح الأغاني وملاحظات البيانو.
كتب عرنيطة أكثر من 200 عمل موسيقي في القوالب الغربية وتشتمل على ثلاث سيمفونيات وأربع معزوفات كبرى concerto للبيانو والأرغن والفلوت والفيولا ومتتاليتين suite و10 مقدمات prélude للبيانو وأربع مقدّمات للأرغن واثنين سوناتة sonate للبيانو وفوغات fugues ورباعيتين وتريتين quatuor بالإضافة إلى أعمال مختلفة وللمجموعات الوترية الرباعية والثلاثية والأعمال الكورالية.
واستعمل في بعض مؤلفاته الآلات الموسيقية العربية التقليدية كالقانون مثل المتتالية رقم 4 لأوركسترا سيمفونية بأربع حركات (صور من فلسطين) وكذلك موسيقى الفولكلور الفلسطيني. وللحفاظ على هذه الأغاني، اعتمد الأبحاث التي أجرتها زوجته يسرى والتي جمعت 100 أغنية شعبية فلسطينية لمركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ويظهر ذلك من خلال مؤلفته الشهيرة “بطاقة هويّة” لقصيدة الشاعر محمود درويش “سجّل أنا عربي” وهي في قالب مغناة درامية cantate dramatique للصوت الرجالي baryton وأوركسترا سيمفونية كاملة مع جوقة مكوّنة من 74 فردًا أداها عام 1970 مطرب الأوبرا اللبناني Garbis Boyagian، وتعتبر مساهمة مميزة في النضال الوطني الفلسطيني.
ألّفت هذه المغناة خلال صيفي 1968-69 وعزفت لأول مرة في قاعة سيد درويش بالقاهرة في 17 جويلية 1970 وشارك في أدائها أوركسترا القاهرة السيمفوني وكورال أوبرا القاهرة بقيادة المؤلف.
وأسلوب المغناة تصويري تعبيري وتتألف من لحنين رئيسيين.
يحتوي الأول على فترتين متناقصتين والثاني في مقام “حجاز كار” يفسح المجال للتفاعل الطباقي développement contrapuntique.
يظهر اللحن الأول سبعة عشر مرة مع زيادة القيمة الزمنية، ويمتاز في كل مرة منها بفوارق لحنية أو إيقاعية أو تعبيرية ومزخرفًا ومقلوبًا.
أما اللحن الثاني فهو مبني على أساس الطباق contrepoint التزم فيه المؤلف بتتابع اللحن الواحد فيُعرض إما مطابقا للحن الأساسي أو معكوسا أو مقلوبا أو متقاطعا.
والجزء الأول منه في شكل فوغة fugue من أربعة أجزاء ويتبع ذلك قسم تلاحقي section canonique في جزأين لأصوات الإناث والذكور.
في الجزء الأوسط من المغناة استمد المؤلف مادته اللحنية من ألحان شعبية فلسطينية: بائع البندرما (المثلجات)، ع القهوجي، يا بو جديلة منثورة، علاوة على أن القسم الأخير يبدأ بارتجال شرقي (تقاسيم) على آلة القانون.
بعد ذلك تنتقل الموسيقى نحو ذروة القوة للمنشد والجوقة والأوركسترا في تلاحم بين اللحنين الأول والثاني وتكرار مُدوٍّ معبّر عن التحذير والغضب:
أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي حذارِ.. حذارِ.. من جوعي ومن غضبي.
(يتبع)