رسالة جبانة
بقلم: محمد مومن
أُلْقِيَت في كل مكان من الأرض احتفاءً باليوم العالمي للمسرح الكلمةُ التقليدية التي لا تغيب للأسف في مثل هذه المواسم أبدا. هذه الكلمة كتبها بالمناسبة الكاتب النُورْفِيجِي يُونْ فُوسْ Jon Fosse)) الحائز سنة 2023 على جائزة نوبل للآداب وصاحب المصنفات الكثيرة في الرواية والمسرح وكذلك الشعر والمقالة وحتى أدب الأطفال. يعني نحن قدّام قامة وهامة هامّة في دنيا الإبداع. وقد جاءت هذه الكلمة كتذكرة لرجال المسرح بأن عليهم أن يفهموا حقّ فهمه حقّ الاختلاف والتميّز. وأن يعوا إن لم يكونوا قد وعوا بعد أن الفنون، وعلى رأسها المسرح، هي المجال الأول والأمثل لعقلية التميّز وقبول الاختلاف. والحرب عدوّة الفنون لأنها تزرع الموت بينما السلم مثلها مثل الفن تنتصر للحياة. فهما قرينان. ونحن حينما نقرأ أو نسمع مثل هذه البديهيات لا نكاد نصدق أنها من قول فُوسْ. بل قل إننا لَنَبْهت كما يوم ُبهت الذي كفر. نستغرب منه وننزّهه مرتابين كل الإرتياب في مصدرها. والحقيقة، كيف لنا أن لا ننزّه نوبل آداب 2023 عن مثل هذه الأفكار المبتذلة؟ تُرى هل كان كاتبها في عجلة من أمره أم كان في حالة استخفاف لهذا التقليد حتى يقول ما قاله بانعدام تام للدقّة والعمق وغياب كامل لحصافة وأصالة وشعرية الرأي، وهي كلها من خصال وفضائل أسلوب هذا الكاتب الكبير التي عوّدنا بها؟ أين جمال الاختزال والايجاز، أين قوّة الغزارة والشعرية التي امتازت بها كتاباته الفذّة؟ لا بدّ أن في الأمر سرا. ربما كان فُوسْ ممّن يكنّون إن لم يكن كثيرا فقليلا من الاحتقار لهذا النوع من المراسم. من الرّاجح أن صاحبنا لا يحب ولا يحبّذ هذه العادات التي يراها كما نراها جميعنا غبية. نتصوّر أنه لم يقبلها إلا بحرج وعن مضض، وبكثير سأم وملل. لهذه الأسباب وأخرى نجهلها جاءت كلمته بهذه الرداءة المحيّرة والمذهلة والتي لا يجوز اعتبارها دالة على فُوسْ وعوالمه التي أوحى لنا بها ما أوحى في آثاره العظمى. إذن، الشرّ لا يمكن أن يكمن إلا في التقليد ذاته، في هذه العادة عينها. فإرسال كلمة إلى أهل المسرح في هذا اليوم الذي نحتفل فيه بهذا الفن القديم هي عادة لا معنى لها. فمهما بحثنا عن هدف واضح لها لما وجدناه، وقد عملوا على إرسائها مرسما من مراسم الاحتفاء بهذا الفن. ولا بدّ أن ننتبه إلى أن إقامة هذا اليوم الاحتفالي هو في ذاته لا يكتسي مغزى كبيرا. فهو لا يتعدى كونه تذكيرا بأن المسرح كانت له قديما عند الإغريق الأوائل طقوسا تقام في الربيع احتفالا بدِيُونِيسُوسْ إله الخمرة ونشوة الحياة وانبعاث الطبيعة ربيعا بعد مماتها شتاء. سيقال ما المانع أن يشهد المسرح احتفالات في مثل هذا “اليوم”؟ أليس هو فرصة ذهبية إضافية تنفتح وتنفسح أمام المسرح لكي نراه في تظاهرات لا تزيدنا إلا حبا فيه؟ هذا مما لا يشك فيه أحد. ولكن المسرح، ككل الفنون الأخرى، يتجاوز كونه غذاء يوم. حلم محبّيه الخلّص هو أن يروه في كل يوم، على مدار كامل السنة بلا انقطاع. فغاية الغايات تجاوز عقلية المناسبات و”المناسبتيّة”. أما الكلمات التي يعهد بها “المعهد العالمي للمسرح” إلى المبدعين والكتاب لكي يكتبوها ثم يتَْلُونَها على الناس ليس بالنافعة على الأقل بالصورة التي تكْتب بها منذ عشرات السنين وأحيانا من أسماء كبيرة في عالم الفن والأدب. ففُوسْ اكتفي بتذكيرنا باقتضاب شديد وتسرّع كبير بمهمة من جملة مهمات كثيرة ملقاة على الفن المسرحي. وقد رضي بالاقتصار على ذكر عِداء المسرح للحرب وحبه للسلام. وهو ما يمكن قوله في كل نشاط فني وإنساني. لهذا كان كلامه عامّا، فجاء بلا وقع له ولا نفع.
كان يمكن لهذا الكاتب النابغة أن يذكر إسرائيل ويذكّرنا بكونها دولة عادية غاشمة تريد إيهام العالم أنها في حرب والحال أنها في عملية إبادة لشعب فلسطين وغزة وتهجيره من وطنه حسب قوة الاّ قانون، ضاربة مثالا لا مثال له في الوحشية والبربرية بما أن حتى النازية لم تبلغ هذه الدرجات التي لا تصدّق من اللاّ إنسانية بما أن ما اقترفته كان سرا ومجهولا إلا من صانعيه وضحاياهم. إذن من السهل جدا الحديث في العام. فمثل ذلك الكلام لفُوسْ لا نظن أن الإسرائيليين الصهاينة أنفسهم سيرفضون تبنّيه أو قبوله. لكل هذا فوجوب الدقة هنا من أوكد الوجبات حين الحديث عن الحرب : كيف يمكن في أيّامنا هذه لإنسان سويّ إثارة موضوع الحرب ونسيان فلسطين وغزة؟ فأن لا نجد ولو إشارة يتيمة في كلمة فُوسّ حول سحق غزة و إبادة الغزاويين لهو من العجب العجاب. لهذا يستهجن كل من سمع هذه الكلمة نسيانها المتعمّد تسمية المسميات بأسمائها. هناك ضبابية مقصودة؛ وهذه القصديّة لا تصدر إلا عن مصلحة ومصلحيّة. وربما هي خوف من إغضاب الأطراف الصهيونية المتنفّذة في كل المجالات وفي جميع بقاع الدنيا. ما يمكن استنتاجه أن منح أحدهم قول كلمة حتى وإن بِحُرِيَّة ظاهرة لا تكفي. فمن واجب حامل الرسالة ومبلّغها هو التعبير عن بعض المشاغل الإبداعية للمشتغلين والمهتمين وحتى المحبّين العاشقين لهذا الشكل الفني، وذلك في سياق تفاعل مع مدّ التاريخ وزجره، مع النار الاّهبة الحارقة للأيام في جريانها. فالمساحة المتاحة في هذه الرسالة بإمكانها أن تكون فرصة غالية لطرح المشاكل الكبرى التي تشغل الإنسانية وليس للبروز الشخصي والكاريزمية مع التهرّب من الأخطار والمسؤولية المزعجة التي عادة ما تؤدي بصاحبها إلى الشقاء وتجلب له المشاكل. والإشارة إلى المشاكل هي من صور الإشادة برسالات هذا الفن الفاعلة. فالكلاس هي رسالة رسالات الفن. ولا معنى للكلمات الرسمية والمراسمية الملقاة بمناسبات احتفالات اليوم العالمي للمسرح ما دامت لا تُستَغَلّ كفرص ثمينة جدا لقول ما يجب أن يقال مهما كان الثمن. وأن تأتي رسالة فُوسٌ على هذا الشكل، أي بصورتها الباهتة وصفتها الشاحبة السقيمة وخصوصا بطبعها الجبان متجنّبة الإصداع بالحق متحاشية مواضيع الساعة الحارقة في حين أنها توهمنا كونها تدعو إليه لَمُحاولة بائسة يائسة في استبلاه الآخرين.
ولا نخال قراءة هذه الكلمة من مثقفي وفناني العالم أجمعين ستجعلهم يقبلون بأن يُعَامَلُوا هذه المعاملة التي تضعهم موضع القاصرين وخاملي الذهن. وحتى وإن عَدَدْنا فُوسْ من فرسان الكتابة في أزمنتنا الرّاهنة، حتى وإن صنّفناه من العباقرة، فذلك لن يشفع له في شيء. فمهما كان قارئ رسالته فلا بد أنه شعر شعورا قويا بأنها رسالة لا خير من ورائها يُرْجى ولا فائدة منها تُجْنى. فكيف تكون لها فائدة ما دامت جانحة إلى التعميم والتسطيح؟ والغريب أن رغم قصرها فهي ثرثارة. وثرثرتها متعمّدة لأنها تريد الهروب من الحقيقة. فمن الواضح أن لها نيّة التخلّص والتملّص. من ماذا؟ من سؤوليتها كرسالة تتمتّع بقدر هائل من التقدير والتبجيل ولها هالة كبيرة تجعلها رأيا مأذونا وكلاما مسموعا- حتى وإن كانت بالنسبة إلى بعضنا هي هالة مفتعلة غير مبرّرة بالمرّة! وإن نحن لا نكاد نستطيع مسك أيّ فكرة أصيلة أو جديدة واحدة فلأنها مندمجة في مشروع تمويه : عدم التصريح بموقف صريح وجلي، وشجاع وأبيّ حول عمليات إبادة الفلسطينيّين من الصهاينة. والموقف هنا هو المنتظر لأنه القلب النابض للرسالة. فإذا بها إنشاء رديء، رسالة بلا قلب ينبض : بلا حياة. وبسبب من هذا، بما أنها رسالة أموات، جاءت أقوالا هي كلها اجترار في اجترار لأفكار معروفة معهودة مبتذلة. وحتى ما كان من الأغراض التي تناولتها الرسالة وأطنبت فيها بلا سبب فقد ظلّت بلا أفكار واضحة. ومهما كانت رداءة الترجمة فلن تشفع لها جدبها الفكري وقحطها الأسلوبي وقفرها الروحي.
لا، ببساطة ليس هناك تفكير عميق ومعمّق في هذه الكلمة التي ألقاها صاحب “نُوسْتَلْجِيَا“. فكلامه رسالة باهته خارجة تماما عن الموضوع، ذلك أن كل المواضيع التي ليست حول غزّة هي حتما خارج عن الموضوع. مبدأ. فلا وجود راهنا لموضوع يشغل العالم بأسره غير غزّة. أما علمنا أن بها سيتحدّد بلا شك مصير البشر ومآلهم في المستقبل القريب والبعيد. فأين غزة من كلام فُوسْ؟ بلا غزّة، لا مغزى للكلام مهما كان. ولِمَا التحيّر ورسالات “اليوم العالمي للمسرح” تخضع لبروتوكولات وديبلوماسيات واعتبارات تجعلها من العمليات الشكليّة التي لا انتفاع ولا استفادة منها. فجلّ، إن لم تكن كل الرسالات التي بُعِثت من قبلها في السابق هي من نفس المعدن : كلام عام، استدعاء للقيم والمبادئ الفاضلة التي تشترك فيها البشريّة جمعاء (حتى وإن لا تمارسها)، هراء، ثرثرة. ولأنها بقت كلاما دوما عامّا فقد ظلت عديمة المعنى، بلا روح. وهو لعمري من حال البروتوكولات التي هي دائما وأبدا من السطحيات. والغريب أن رغم رداءتها فيما كانت عليه في الماضي فنحن نلاحظ تَرَدٍّ يزداد سوء بعد سوء من سنة إلى أخرى. فأين رسائل احتفاء نيل نوبل من هذه الرسائل التي تريد محاكاتها فتظل نسخا باهته لا روح ولا قلب فيها؟ من نوبل إلى يوم العالمي للمسرح هناك تدحرج، تهاويل وتردٍّ. كيف تفسير هذا التردّي المستمر؟ من الراجح أنه إفرازات بارزة- إذن أكثر سطحية- لثقافات الّامعنى. إنها التوت المر لمجتمعات “الليبرالية بلا حدود” حيث لا شيء فيها يمكنه أن ينجو من غول التشيّئ : الفن كما الأدب والمعرفة، كما كل الأنشطة الانسانيّة تقريبا. والمسرح ليس في هذا السياق بالاستثناء؛ فهو أيضا غارق في هذه الأمواج الجارفة.
وأما المسرح الحق!.. وأما المسرح الحق فهو خارج على “اليوم” مهما كانت “عالميّته”. إنه فوقه وفوق كل الأيام. يقال إنما هي في الأخير ليست إلا مجرّد احتفالات للذكر والتذكر؛ وبما أنها ذكرى، فلما التذمّر؟ الداعي لعدم اطمئناننا إلى الاحتفال بهذا ” اليوم العالمي للمسرح” هو أصله المنغمس في هذا التسونامي من التشيّئ الذي له وجوه التطهير الصرف. وإن نحن لا نرتاح له كثيرا فلأنه بصورة ما شارة من شارات تحقير المسرح. وبما أنه يوم له صفة وصبغة مناسبتيّة فالخوف، كل الخوف هو أن يكون فرصة ووسيلة يُمرَّر فيها فكرة شرعية وعادية تهميش المسرح في مجتمعاتنا. ألا نرى أنه يقول لنا إن هذا الفن تعبيرة اجتماعيّا مؤطَُرة؟ وها هو كما تراه بمناسباته، بفصوله وأيامه. هنا موطن الخوف ومكمنه. فمن مساوئ الاحتفال بهذا اليوم عالميا أنه يشرّع بشكل ما للتّهميش المقنّن والمؤسّس الذي يعرفه الفن في أزماننا هذي. ها أننا نعترف ونحب المسرح! كلنا مسرحيون! وأما الواقع والحقيقة فشيء آخر طبعا. كذلك “تقتل في هذا اليوم العالمي فكرة المسرح كحاجة جوهرية في حياة المجتمعات. لهذا ليس من الجنون في شيء أن نعتبر- ولو بنوع من المبالغة – أن هذا “اليوم” الذي يُقامُ ويُقدَّم إلينا على أساس كونه مناسبة تذكُّرٍ وتَذْكِير، ساعات بريئة لشيء اسمه “مسرح” هو يوم يُسمح لك بواسطته نسيان بقية الأيام التي لا مسرح حقيقي فيها. ولعلّ بفضل هذا اليوم يُغفَر للأيام الباقيات، أي للمسارح السيّارة، تلك التي تبقى في أغلب غالبها بلا مسارح أو بمسارح تافهة مصنوعة صنعا لتتفيه حياتنا. وبعض ظنوني أن هذا اليوم العالمي ما بُعث من أزمان إلا عن قصد وتعمّد. فاليوم يتلو اليوم والأعوام تتتالى والمسرح كصرح يتداعى. كيف نتصوّر أن يكون هذا من الصدف؟ هل يمكن أن لا نعقل بين ظاهرة تكاثر الروح الاحتفالية في المسرح وغياب المسرح الجاد المسؤول صاحب القضايا المهمّة والهامة، أي المهموم بهموم الإنسانيّة ومشاكلها ؟ نحن نتحرّك عالميا تحت ظل ثقافة جامعة ولو احتوت ثقافات بدت مختلفة ومتنوّعة؛ وإن كان علينا نعتها لنعتناها بكونها ذات طابع بورجوازي ليبرالي، وليبيرالي جدّ موحّش. وكيف لا تراودنا فكرة وجود صلات ظاهرة وخفيّة بين الإهتمام المطّرد باحتفاليات “اليوم العالمي” والإهمال المتنامي أو التغييب الذين ما فتئت تجدهما المسارح الحية الحقة الفاعلة القادرة على تغيير هذه المجتمعات ما بعد الليبيرالية التافهة بفكرياتها الفارغة وقيمها البائدة؟ إن عقلية الاحتفال وفكريات الاحتفالية تساهم في إهمال المسا ح الجادة وتقوّي من إهمالها وتغييبها حتى لتكاد تصبح مهمّشة مغيّبة غريبة كغربة صالح في ثمود.