الموسيقار د. محمد الڤَرفي
اتفق “العالم الحر” عقب الحرب العالمية الثانية بمقتضى معاهدة دولية واسعة العضوية على أن الإبادة الجماعية تعني أيًا من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير كلّيا أو جزئيّا لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، وتتمثل في:
أ) قتل أعضاء المجموعة
ب) الإضرار الجسيم بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأعضاء المجموعة
ج) إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية بقصد تدميرها المادي كليا أو جزئيا
د) التدابير الرامية إلى منع الولادات داخل المجموعة
هـ) النقل القسري للأطفال من مجموعة إلى مجموعة أخرى
ورغم أن هذه “المحرّمات” تبدو في ظاهرها مثالية وترعى حفظ الكرامة الإنسانية من عبث الهمجية لم يرد في هذه المعاهدة التنصيص على أي مفعول رجعي ممكن أو حتى مجرّد الإشارة إلى ما يحدث آنذاك في المستعمرات من إبادة وسلب للحريات، فقد كان أغلب واضعيها ملطخة أيديهم بدماء الأبرياء لمختلف شعوب الأرض.
أكبر المنتصرين في الحرب على ألمانيا العنصرية والمتوسعة في أوروبا كانوا الحلفاء وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية وتابعتها التوأم حليفتها العمياء بريطانيا.
وباعتبارها قوة عالمية رائدة ولاعبا جيوسياسيّا رئيسيّا ظل صنّاع القرار في أمريكا يقدّمونها “أعظم ديمقراطية في العالم” ويسمّون المعسكر المقابل “الستار الحديدي” وينعتونه بأنه “أكبر ديكتاتورية”.
ومن مهازل الدهر أن هؤلاء شاركوا في وضع تصور لجريمة الإبادة الجماعية وصياغة اتفاقية منع ارتكابها والمعاقبة عليها واعتمدتها الأمم المتحدة عام 1948، وهم الذين لم يصدّقوا عليها إلاّ عام 1988 أي بعد أربعين سنة، وبتصرّف خبيث لا يمس بمصالحهم.
وعلى مدار التاريخ الأمريكي نفّذوا العديد من المذابح وعمليات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين وبنوا حاضرهم ومستقبلهم على جماجم الأبرياء.
فلا غُرو إذن أن تنحى دولة الاحتلال الصهيوني منحى باعثيها ومدعّميها الرئيسيين فتسعى إلى “تطهير” فلسطين من العِرق العربي ومحو أثره بشتى وسائل التدمير.
وتجدر الإشارة إلى أن نتائج حروب الإبادة التي شنّها قطعان المستوطنين “البيض” ضد الهنود الحمر منذ غزو الأمريكتين عام 1492 والاستعمار الأوروبي اللاحق تفوق التصوّر.
فقد أدت إلى الإبادة المنهجية للشعوب الأصلية في القارة والقضاء على مقوماتها الثقافية ولم يتبقّ منها سوى النزر القليل.
وفي هذا السياق يقول المؤرخ الأمريكي David E. Stannard في كتابه (المحرقة الأمريكية كريستوفر كولومبس وغزو العالم الجديد) إن ما يقارب 100 مليون من السكان الأصليين في نصف الكرة الغربي قُتلوا أو ماتوا قبل الأوان على أيدي الأوروبيين وأحفادهم على مدى خمسة قرون.
وتشير تقديرات الباحثين إلى أن المستعمرين الأوروبيين تسببوا في وفاة ما يقرب من 56 مليون من السكان الأصليين خلال المائة سنة الأولى من استعمار أمريكا، أي بين وصول كريستوف كولومبس إلى منطقة البحر الكاريبي عام 1492 وعام 1600، كما بيّنوا التاريخ أن وصول المستوطنين البريطانيين كان مسؤولاً إلى حد كبير عن مذبحة الهنود الأمريكيين.
ووفقًا لما ذكره عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي Russell Thornton فقد توفي حوالي 12 مليون من السكان الأصليين داخل الحدود الجغرافية الحالية للولايات المتحدة بين عامي 1492 و1900، ويعيش أحفاد القبائل الأمريكية الأصلية الباقين على قيد الحياة في فقر داخل المحميات الهندية الممنوحة اتحاديًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
(يتبع)