بقلم عبد الجليل المسعودي
“الصحافة اذا كانت حرّة يمكن أن تكون جيّدة ويمكن أن تكون رديئة. أما اذا لم تكن حرّة فإنها قطعا لن تكون الاّ رديئة”.
ألبار كاميAlbert Camus-فيلسوف وكاتب وإعلامي فرنسي.
لا علاقة شخصية تربطني بالإعلامي محمد بو غلاب. لا هو من جيلي ولا من أصدقائي. كذلك، وبما أني لست من هواة الإذاعات الخاصة المتناسخة بعضها من بعض مضمونا وتعبيرا، فإني، بالنتيجة، لست من متابعيه المنتظمين.
ومع ذلك، أعترف أنه حدث، وأنا أبحث، عبر راديو السيارة، عما يخفف وقت انتظار انسياب حركة المرور على طرقاتنا الضيّقة المزدحمة، أن عثرت مرتين أو ربما ثلاث، على برنامجه واستمعت إليه.
الرجل منتقدٌ شديد، جريء، مِحجاجٌ ومجادلٌ. لكنه ثاقب الرأي عميق البصيرة. ولا شك أن ذلك ما يفسّر نجاحه جماهيريا وشهرته، وإن كان يراه البعض شعبويا و نوعا ما استفزازيا، مع انهم يقبلون على الاستماع إليه.
هل أخطأ محمد بوغلاب حين وجّه انتقاده الشديد إلى موظفة بإحدى الوزارات حتى تشتكيه وتصرّ على مقاضاته ويُحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر نافذة؟
جوابان اثنان متناقضان ممكنان عن السؤال:
الأول: يكون ب”نعم” لأن بوغلاب مواطن، وهو بصفته تلك ليس فوق القضاء، بل قابل للمقاضاة كأي مواطن، ونيل جزائه إن كان أخطأ متعمّدا وأساء لغيره.
اما الجواب الثاني ف”لا”. لأن بوغلاب في دوره الإعلامي تماما حين يبحث ويستقصي ويستنكر ويشكّ ويشكك ويندد. هو دوره. هي وظيفته. فكيف يُعاقب من يقوم بدوره ويضطلع بمهمّته؟
القاضي الجيّد هو من يطبّق القانون، والقاضي الذي حكم على بوغلاب بستة أشهر سجنا قام بدوره وطبّق القانون( أو المرسوم).
أين المشكلة اذن؟
المشكلة هي أن وظيفة بوغلاب ليست ككل الوظائف. هي محرك وهدف كل عمل سياسي، وهي أساس كل ثقافة وحضارة، وهي ديدن الإنسان أينما وجد ومنذ ما وجد: إنها حرية التعبير التي هي أساس الحرية في كل تمظهراتها وتجلياتها، وهي شرط كل بناء ديمقراطي.
والتعبير الحرّ مَركبٌ زلوق يمكن ان يأخد راكبه إلى تجاوزات واحيانا الى إسائات، خصوصا في مجتمع حديث العهد بالحرية. لذلك وجب توفر عنصرين اثنين أساسيين:
الأول، التحلي بالصبر والتسامح والتسلّح بالتساهل حتى تتدرب الأنفس على قبول الانتقاد والموقف المعاكس والرأي المخالف. كل ذلك طبعا مع اعتبار أن هنالك حدودا واضحة لا يجب تعديها مثل التشهير والثلب وغيرها من أشكال التشويه الأخرى.
اما العنصر الثاني فهو مادي يتمثل في وجود هيئات تعديلية تراقب وتذكّر وتدعو الى الإلتزام بضوابط ممارسة التعبير الحرّ الذي يبقى دوما مكسبا في طور التكوين وليس مكسبا نهائيا.
هذان العنصران ليسا متوفرين اليوم. فلا مجتمعنا أفرز ثقافة القبول بالنقد والاختلاف. ولا قطاع الإعلام انتج مكانيزمات التعديل الذاتي.
والنتيجة: إعلامي له قيمته ومكانته يٌحاكم ويُسجن كأنه مجرم حق عام. وهو ليس الوحيد.
لكن الخاسر ليس بوغلاب وحده الذي يفقد حريته، بل الإعلام الذي يصاب في صورته ومصاقيته، بل القضاء الذي الذي يجد نفسه يجرّم حرية الإعلام عوض أن يحميه، بل البلاد كلها التي سيأكّد يوم 3 ماي تراجعها على سلّم حرية التعبير بين دول العالم.
سجن محمد بوغلاب خطأ بكل المقاييس. يجب إخلاء سبيله خدمة لتونس أولا.