الموسيقار د. محمد الڤَرفي
“الموسيقى القومية” هو تيّار فني تزامن مع الفكر الرومانسي في القرن التاسع عشر مستجيبا إلى المبادئ السياسية الداعية إلى حب الوطن والاعتزاز بخصوصياته الثقافية من خلال ابتكار صيغ تعبيرية تميّزه عن الآخرين وتوحي بانتمائه الجغرافي. لذلك وظّف المؤلفون بعض العناصر الفلكلورية في أعمالهم ذات القوالب الكلاسيكية مثل السيمفونية وغيرها كما ابتكروا قالب القصيد السيمفوني لرواية سرديّة وصفيّة في أحداث تاريخية أو مواضيع ميثولوحية متصلة بأوطانهم.
وفي كتابها “القومية في موسيقا القرن العشرين” الصادر بالكويت في تسعينات القرن الماضي عن سلسلة “كتاب المعرفة” استعرضت المؤلفة د. سمحة الخولي أهم المدارس القومية التي ظهرت في إسبانيا وبريطانيا واسكندينافيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية مثل البلقان وروسيا وخصصت الفصل الأخير منه لما أسمته “أصداء القومية في الشرق”.
والشرق حسب تعريفها هي (بلاد الشرق الإسلامي والعربي التي تضم مجموعة شعوب شديدة التباين في نُظمها الاجتماعية، وهو ما ينعكس بوضوح في ثقافتها وتفاعلها مع الغرب، ولكنها تشترك في الإطار العام لتراثها الثقافي والديني).
وقد شمل تحليلها بإسهاب نماذج من أعمال مشاهير الموسيقيين الذين ألّفوا في هذا النمط من تركيا ولبنان ومصر باعتبار هذه البلدان “أكثر شعوب المنطقة اتصالا بالغرب وتأثرا به في حياتها الموسيقية وهي التي أنجبت طاقات إبداعية في التأليف والغناء”.
ومقابل تركيزها على مؤلفي البحرين من خريجي كونسرفتوار القاهرة مرّت عبور الكرام بالمغرب العربي وكأنها أرض قاحلة لم تكن فيها على حد قولها سوى بوادر أولية لإبداعات وليدة تسعى للتوفيق بين التراث المحلي وفنون الموسيقى الغربية لأنها لا تزال مستمرة في أحضان التراث الأندلسي الذي يُحظى باحترام مثالي. كما اعتبرت أنه لا توجد في تونس دلالات واضحة على وجود جيل من المؤلفين الموسيقيين القوميين يفرض نفسه وإبداعه على الرأي العام الموسيقي عربيا ودوليا.
وفي هذا الاستنتاج المتسرّع دليل على ما كان يمارسه أولي السلطة في بلادنا من تعتيم على التيارات الفنية الحديثة التي لا تتفق مع خطه من جهة وعلى عدم إطلاع أهل المشرق على تاريخ منطقتنا من جهة أخرى، إضافة إلى اعتقادهم الراسخ أنهم سُرّة العالم.
والحقيقة أن أول أوبرا في الوطن العربي لم تكن كما يرددون أوبرا القاهرة التي شيّدها الخديوي إسماعيل عام 1869 لتشهد احتفالات تدشين قناة السويس، بل كانت أوبرا مدينة الجزائر التي رأت النور عام 1853 أي ستة عشر سنة قبل الأولى.
أوبرا مدينة الجزائر أول أوبرا في البلاد العربية (1853)
وبالتالي، فقد كان من الطبيعي أن يُحدث هذا الإنشاء تفاعلا عضويا بين عناصر الثقافة العربية المغاربية وعناصر مغايرة كان لها تأثير في التعبيرات الفنية الحديثة، وقد انخرط فيها مبدعون محلّيون مثلما كان الشأن في بقية البلاد العربية التي عاشت نفس الحالة.
أوبرا القاهرة ثاني أوبرا في البلاد العربية (1869)
احتضن المسرح الإمبراطوري théâtre impérial أو الأوبرا البلدي opéra municipal بالجزائر منذ إنشائه الحفلات السيمفونية وعروض الفرجة ذات الصلة مثل الباليه المستقدمة من العاصمة الأم باريس وكذلك من إيطاليا المنتجة لفنون الأوبرا.
وعثرنا في إحدى أعداد مجلة إفريقيا الشمالية المصوّرة L’Afrique du Nord illustrée صادرة بالجزائر في نهاية الثلاثينات على لقاء صحفي أجراه محرر صفحة السينما مع ملحّن شاب ذاع صيته آنذاك كمؤلف موسيقى فيلم Pépé le Moko (1937) بطولة Jean Gabin هو محمد إيڤَربوشن Iguerbouchen.
ويتحدث إيڤَربوشن عن تجربته السينمائية التي لفتت إليه الأنظار:
“عندما كُلّفت بتأليف الموسيقى السيمفونية للفيلم كنت في حيرة من أمري. فلأول مرة يُدعى مؤلف جزائري أصيل للمساهمة في إنجاز عمل يُتوقع أن يجد صدى في فرنسا وخارجها. كان انطباعي جليّا. لقد صار لدي قناعة مطلقة بأن المستعمرة لم تعد في نظر العاصمة حقلا شاسعا للحبوب، أو ضيعة هائلة غنية بتربتها الخصبة، أو حقل كُروم نموذجيا يعيش فيه أناس لا هم لهم سوى أن ينعموا بحياة مادية بحتة. فقد بدأنا ندرك اليوم أن بها مَنبت فنانين غير متوقع من شأنه أن يُثري التراث الفني للوطن الأم”.
وبمراجعة الشريط وجدنا مقدمة الفيلم تحمل اسم الملحن الفرنسي Vincent Scotto (1874-1952) إلى جانب الملحن الجزائري كشريك له في تأليف الموسيقى التصويرية وهي عادة كانت ولا تزال متبعة في السينما الأوروبية خصوصا إذا كان الملحّن مبتدئا أو مجهولا.
وُلد محمد (مُحَنْدْ بلغة القبايل) إيڤَربوشن Iguerbouchen (1907-1966) بقرية “آيت أوشان” الواقعة في ولاية “تيزي وِزّو” بمنطقة القبائل الكبرى وسط عائلة فقيرة جدا. ومنذ سن السادسة ارتاد مدرسة “آغريب” حيث كان تلميذاً نجيبا لمعلم مجتهد اسمه “جانين”.
فبالإضافة إلى تدريس اللغة الفرنسية ومواد التعليم الأخرى كان جانين يلقن تلاميذه الصغار أصول الموسيقى والنفخ في الآلات النحاسية. لكن الدروس توقفت في وقت مبكر جدًا بالنسبة للصغير محمد لأن عائلته اضطرت إلى مغادرة القرية والاستقرار في حي القصبة العتيق بالجزائر العاصمة جوار متجر يديره نبيل إنكليزي يُدعى Fraser Roth سيكون له تأثير على مجرى حياته.
لم تؤثر البيئة الجديدة على القروي الصغير وتأقلم مع حياة المدنية فواصل التألق في دراسته وتعلقه بالموسيقى وصار غالبًا ما يذهب إلى حديقة Bresson ليتابع بفرح وشغف كبيرين الحفلات الموسيقية التي كانت تُقام في كُشك الموسيقى ثلاث مرات في الأسبوع.
(يتبع)