بقلم أحمد الحمروني
عاد صديقي الناشر الصغير من العمرة فقلت له: “أهلا بالحاجّ الصغير” على معنى أنّ العمرة هي الحجّ الأصغر. وانتظرت منه التعبير عن مشاعر السعادة بما أنجز والإعراب عن مباهج ما رأى فما عبّر وما أعرب بل لمّح مبتسما إلى أشياء فهمتها عنه بالفطنة ما دام اللبيب دون الإشارة يفهم.
قبل السفر بأيّام ظهرت عليه علامات المشتاق إلى المناسك والمتشوّف إلى المشاعر كالمتلهّف إلى موعد اللّقاء بالحبيب الأوّل. ولم يكن يعرف شيئا من أمور العمرة فضلا عن الحجّ غير أنّه تشجّع بالرفقة وعوّل على الصحبة، وربّما نوى الدربة على الأصغر مؤمّلا إتمام الأكبر. وما هما بالمقدور عليه، ولا أحدهما بالميسور لأيّ كان من هذا البلد الأمين في هذا الظرف العسير.
وإذ كرّرت عليه السؤال أن “صف ما شاهدت وعبّر عن شعورك” من رواسب التعليم الابتدائي نطق بالعجب العجاب كالمصاب بخيبة أمل بعد أن تفاجأ بعكس المنتظر. ذلك أنّه لم يكن على علم بفعل المملكة وفق العقيدة الوهّابيّة بمعالم الإسلام في عقر داره إذ قضت على كلّ شيء هدما وتسوية بالأرض حتّى لم يبق شيء يُزار للتذكّر والاعتبار. الحرم المكّيّ وحده سلم من الدمار الشامل، ومع ذلك لم يسلم من تطاول المباني الجديدة الشاهقة المتشبّهة بناطحات السحاب عليه وحوله حتّى لم يعد يرى منه لا الكعبة المشرّفة ولا حتّى المآذن المرتفعة بما أنّ رافعات أشغال التوسعة الدائمة فاقتها علوّا فصارت هي الدّالة على المسجد مثلما صار برج الساعة هو الدّال على قلب مكّة. فأيّ فرق بينها وبين منهاتن وقد تشاركتا مع كبريات العواصم في المباني العصريّة والمحلاّت التجاريّة والمعروضات الأجنبيّة والشوارع الفسيحة والطرقات السيّارة والأنفاق السريعة وغير ذلك من المظاهر العمرانيّة المميّزة للبلدان الثريّة بالنفط وغيره من تجارة وسياحة في الشرق والغرب؟
لا شيء في تلك البقاع المقدّسة حافظ على عطر الشرق ولا حتّى على روح العبادة بعد أن طغى التقدّم المفرط على المشهد العامّ بدءا بأفخر السيّارات والحافلات وانتهاء بمترو الحرمين بما تمّ بين مكّة وعرفة ومنى ومزدلفة. كلّ ذلك تيسير، ولكن !
أيّة عبادة إذا زالت المشقّة تماما ؟ وأيّة نكهة إذا فسدت الصورة القديمة، بما لها وما عليها، والمألوفة في المخيال الإسلامي من خلال كتب السنّة ورحلات الحجّاج والمعتمرين عبر العصور؟ تلك هي الصورة القادرة وحدها على إثارة الذكرى وشحذ العاطفة عندما نجد معالم الماضي شاهدة على الإسلام المبكّر وعلى السيرة النبويّة في علاقة الرسول الكريم بالأهل والأصحاب والأمكنة والأحداث.
وللأسف فبدل ترميم تلك المعالم بما فيها المساجد القديمة والمزارات من الأضرحة والمقابر، وعوض المحافظة عليها مفتوحة للوافدين أزيلت على بكرة أبيها. كذلك شأن البيت الذي ولد فيه الرسول (ص) إذ هدّم وأقيمت في مكانه مكتبة وعلّقت على جوانبها ملصقات تنصّ بأكثر من لغة على أنّه لم يقم دليل على أنّه (ص) ولد هناك. وكذلك مقبرة السيّدة خديجة والسيّدة عائشة إذ أكلت الطريق السيّارة نصفها وقسمتها إلى ساحتين مسيّجتين صفّقت فيهما حجرات دونما علاقة بما تحت التراب حتّى لا يعرف أحد قبرا لأحد. وكذلك البقيع في المدينة. وإذا احتفظت بعض المساجد بأسماء أصحابها فإنّه لم يبق من أصولها أثر بعد التجديد الطامس لكلّ قديم. والله أعلم إن كان جرى أمر جلل في الروضة الشريفة أو دبّر خطب خطير لجبل أُحُد ما لم يكن هذا وذاك من قبيل الإشاعة. وأكثر اشمئزازي من صنّاع تلك الأشرطة السياحيّة المأجورة عندما يكثرون من ترديد عبارة ” ما شاء الله !” على كلّ مشهد تقع عليه عين الكاميرا حتّى ولو كان محطّة الإرسال اللاّسلكي على رأس جبل المدافع ! و”ما شاء الله” على الذوق “السليم” في بدائع البدع.
وحفّزت صاحبي للحجّ، إن شاء هو وشاء الله له، ليرى البقيّة عند رمي الجمرات بين الجسور المعلّقة، في انتظار مزيد التيسير ببساط متحرّك للطائفين بالكعبة سواء واقفين أو على الأرائك متّكئين. وكلّه من فضل السياحة الدينيّة زيادة على الثروات الطبيعيّة. والله معين المسلمين المعذّبين.