في المخيال العربيّ أنّ الشعراء كانوا في الجاهليّة يطلبون صحبة الجنّ في وادي عبقر كبيرهم ليأتوا بما لم يأت به الأوابد حتّى صار لكلّ شاعر شيطانه الموحي إليه. ومن هناك انتشرت في أنحاء العالم ولغات الأمم كلمات مشتقّة من الجنّ أو منسوبة إلى عبقر. ولنا في الفرنسيّة كمثال (Génie) بفروعها، وفي العربيّة (عبقريّة). ولنا في الدارجة عبارة (شيطانه في جيبه). وفي تراثنا الأدبي والفكري كتب عن الجنّ والشياطين، من القرآن إلى رسالة “التوابع والزوابع” لابن شهيد الأندلسي (382-427هـ). وفي سورة الجنّ أنّ منهم مؤمنين ومنهم دون ذلك.
وما أنا بشاعر لأصاحب على الدوام شيطانا أو أتّخذ من الجنّ تابعا، غير أنّي أجد أحيانا عونا لديهم بوحي لم يخطر على قلب بشر، فهل ألام على فكرة أو صورة منهم في كتابة أدب ملتبس بالخيال؟ وأنا لم يصبني أذى من تحت أيديهم ولا من بين أرجلهم، وإنّما أصابني أذى كثير وكبير من البشر. وحسبي أن أستعيذ بالله من الشيطان فيتركني وشأني، بل هي نفسي الأمّارة بالسوء فيما أقترف من الذنب وفيما أستجلب من الشرّ، فمشكلتي في الدنيا وحسابي في الآخرة مع نفسي، لا مع جان ولا مع شيطان. ورأيي في إبليس كلام آخر في كتاب آخر، ومشكلته مع الله وليست معي، في نهاية الأمر.
لقد فهمت أمر الله تعالى : “وفي أنفسكم أفلا تبصرون” (الذاريات: 21) على أنّه دعوة إلى النّظر بالعقل فيما حولي من الموجودات حيث تتجلّى قدرته وحكمته، ونسيت الابتداء بنفسي حتّى جاءني “صديقي” الخفيّ بمرآة غير التي اعتدت النّظر فيها إلى وجهي فأرى الحسن، وأوحى إليّ بأن أنظر إلى عيوبي. وكنت أحصي عيوب الناس فصرت أبحث لهم عن الأعذار وأراجع نفسي فيما أقول وأفعل وفيما أعلن وأسرّ خشية العذاب الآخر ورجاء الفوز والثواب. وإنّها لعيوب كثيرة، أوّلها أنّي أحبّ نفسي على حساب من هو الأولى بالمحبّة، وأنتصر لها على أنّ الحقّ معها. وأجد الأدلّة والحجج لفرض رأيي على أنّه هو الصواب وأنا مقتنع بأنّه هو الأصوب. ومنها أيضا، تبعا للعيب الأوّل، ضيق النفس بالآخر ومقاطعة المتكلّم وردّ الفعل والقول عليه بقوّة الثقة في النفس وعنف التشنّج.
وبتلك المرآة راجعت نفسي فصرت أطلب الحقّ من حولي وأتصوّر الصواب لدى غيري، كما صرت أستمع للطرف المقابل معلّقا أو معترضا عليّ، وأصبر عليه حتّى يوضّح ويكمل. وقد أجد أنّ بعض الحقّ معه وبعض الحقّ معي وإن اختلفنا بالتّناصف. فكلامه مثل كلامي صواب يحتمل الخطأ. وبلغ بي طول السمع والصمت وقتا جعل مخاطبي على الطرف الآخر من الهاتف يشكّ في تواصل المكالمة فيسألني : “هل تسمعني؟” فيتأكّد بجوابي.
ومن عيوبي التي يعرفها خاصّة كتبة نصوصي بالحاسوب، وكذلك أهلي، الاهتمام المبالغ فيه أكثر من اللاّزم بالجزئيّات والتفاصيل، من النقطة والفاصل على الورق إلى تسوية المنشفة في المعلاق وتصفيف الأحذية في الخزانة لأنّي لا أقبل الفوضى، وأحبّ النّظام في الأشياء كما في الأفكار حتّى أنّي أقطع القراءة أو الكتابة إذا نظرت فرأيت شعرة على الأرض أو علبة دواء في غير مكانها وأنهض لتسوية الأمور والاقتدار بالتالي على استئناف ما كنت فيه. وقد يبلغ بي الهوس من الشدّة إلى حدّ النّهوض من فراشي فور اضطجاعي لإعادة كتاب إلى موضعه في المكتبة أو لتعويض كلمة بأحسن منها فيما كنت أكتب. وهكذا أنا صعب مع نفسي أكثر ممّا أنا شديد مع الناس. ومثلما لا أسمح لنفسي بالخطإ، في حدود تصوّري، فإنّي لا أسامح أصحابي في أكثر من خطإ. وما أقلّهم! بل من بقي منهم؟ بقي الشيطان، فهو الذي، في غيابهم وصمتهم، نصحني بأن أنقص قليلا من النقد وأزيد قليلا من المجاملة، وكأنّه هو ذاته شيطان الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى والموحي إليه بشعر قال فيه من المعلّقة : (الطويل).
ومن لم يصانع في أمور كثيرة * يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم
وحدّث ولا حرج عن شياطين معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وميكال آنج وليوناردو دي فنشي وفولتير وآنشتاين. وما أكثر شياطين العرب والغرب!
وخير الشياطين شيطان ابن رشيق القيرواني (390 هـ / 1000 م – 456 هـ / 1070 م) لقوله فيه:
رأيتُ إبليــس مــن مروءتــه * لـكــــلّ مـــــــا لا يطاق محتمِلاَ
فإذا ما هوِيتُ أمرا وأعجزني * جاء به في الظلام معتقَلا
تبذُّلا منه في حوائجنا * ولا يزال الكريمُ مبتذَلا