في حين كانت أوروبا تتعثّر قبل الحرب العالمية الأولى كانت أمريكا تشهد ظهور أضخم إنتاج سينمائي في العالم بأرفع تكاليف قدرها 100 ألف دولار أي ما يعادل اليوم أكثر من ثلاثة ملايين دولار. إنه الفيلم الأسطورة للمخرج Griffith D.W. “مولد أمة” The Birth of a Nation (1915) الذي يعتبره الكثيرون “ملحمة عنصرية” إذ جاء بعد مرور خمسين سنة على نهاية الحرب الأهلية بين ولايات الشمال وولايات الجنوب ليحفر في عمق الذاكرة الأمريكية المريضة ويوقظ العنصرية الكامنة فيها ويُكرّس عُلويّة الأبيض.
د. و. ڤريفّت: جلب الإفريقي إلى أمريكا زرع البذرة الأولى للانقسام
وكما قال أحد النقاد آنذاك: “هذه الدراما القبيحة أبعد ما تكون عن الصمت”، فهي تستعيد أحداثا مشحونة بالضغائن وتنمّي أحقادا دفينة منها اغتيال الرئيس لنكولن مساء 14 أفريل 1865 من طرف ثلاثة انفصاليين من الجنوب خلال عرض مسرحي كان يحضره رفقة زوجته وذلك بعد خمسة أيام فقط من الإعلان رسميا عن انتهاء الحرب.
والفيلم مقتبس عن قصة Thomas F. Dixon Jr. “رجل العشيرة”TheClansman: An Historical Romance of the Ku Klux Klan وهي رواية تاريخية لجماعة كوك اوكس كلان المتطرّفة تصوّر تطوّر الأخلاق الأمريكية أثناء الحرب الأهلية وبعدها من خلال تجوال عائلتين، عائلة Stoneman المؤيدة للاتحاديين من الشمال وعائلة Cameron الكنفدرالية من الجنوب.
ويبدو أن عودة السلام لا تهدئ العقول. فإلى جانب اعتباره أول فيلم ناجح ويُدرس في معاهد السينما لِما أحدثه من ثورة في تقنيات السينما، فقد ظلّ موضع جدل لأنه ساهم كأداة دعائية في تذكية عنصرية البروتستانت البيض ضد السود وكان سببا في إحياء عصابة ku klux klan من جديد لتقوم بدور المُنصف والمنتقم للإرادة الجماعية.
في بداية السينما حين لم تظهر بعدُ تقنيات تسجيل الصوت مع الصورة كان لا بد من الاستئناس بالصوت حتى يبعث الحياة في العرض السينمائي فوقعت الاستعانة بمن يصاحب الشريط مباشرة سواء بعزف الموسيقى والمؤثرات الصوتية أو بالتعليق الكلامي.
وكانت بعض دور العرض توظف “حكواتي” (فداوي) للتعليق على أحداث الشريط وتحديد الوقائع في الزمان والمكان والتكلم مكان الممثلين والتعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم. ولما كان الجمهور في أغلبه أميا فقد كانوا يتولون أيضا قراءة الفواصل المكتوبة الواردة في الشريط أو ترجمتها بالنسبة للأفلام الأجنبية.
كانت السينما في بداياتها أداة ترفيه للطبقة العاملة تُقام في قاعات بسيطة التجهيز وجاء فيلم ڤريفّت ليغيّر هيأتها إلى الأفضل ويوسّع دائرة الجمهور إلى شرائح جديدة من الطبقات الوسطى والعليا. فقد استقطب الفيلم ملايين المواطنين في كامل أنحاء الولايات المتحدة هرعوا ليشاهدوا هذه الملحمة التي أثارت فيهم مشاعر متناقضة بين بالترحيب والاعجاب إلى السخط والاحتجاج.
هذا الفيلم الصامت الذي يدوم قرابة ثلاث ساعات هو أطول فيلم في ذلك الوقت، وكان يرافق عرضه أوركسترا مؤلف من 40 عازفًا وعديد المطربين المنفردين وجوقة من الأطفال يبلغون من العمر اثني عشر عامًا.
وتتضمن الموسيقى التي قام بإعدادها وتنسيق أجزائها المتنوعة المصادر الملحن J. C. Breil (1870-1926) تجميعا هجينا لمؤلفات معاصرة من أعمال المشاهير أمثال غريغ وفاغنر وبيتهوفن بالإضافة إلى ألحان شعبية وسيَر وطنية وأخرى من تأليفه.
كان المنتجون يوزعون مع صدور كل فيلم جديد ورقات cue sheets تحمل مدونات الموسيقى المُقترح عزفها عند عرض الشريط مع مختلف المشاهد. وقد ظلت هذه الطريقة منتشرة حتى ظهور السينما الناطقة في العقد الثالث من القرن العشرين ومكنت الموسيقيين وكذلك تقنيي العرض من متابعة المشاهد بكامل الدقة.
حُظي الفيلم عند ظهوره بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة لكنه أحدث في الآن نفسه اضطرابات لدى السود الأفارقة ومناهضي العنصرية البيض بعدة مُدن وصلت حد المظاهرات الصاخية وتفشّي أعمال الشغب.
ذلك أنه يقدّم عصابة “كو كلوكس كلان” المتطرفة في صورة منقذ للأمة أعاد إليها النظام الاجتماعي والسلم المدني بعد حرب الانفصال عندما وضَع السودَ تحت وصاية البيض.
ويرى الباحثون أن الخطاب العنصري للفيلم كان له تأثير جد كبير لدرجة أن المنظمة التي تمّ حلّها سابقا نهضت من رمادها وأن عدد عمليات الاعدام العشوائي ازدادت بصفة قياسية. “وقد عزّز هذا العمل الدعائي فعاليته من خلال العرض المذهل الذي يساعد على تثبيت تمثيل السود في الخيال الجماعي الأمريكي لعقود من الزمن”.
(يتبع)