ضمن منشورات نقوش عربيّة صدر منذ أيام كتاب الاستاذ المناضل الدستوري المكي العلوي تحت عنوان “مسار وذكريات”
الكتاب كان مرتقبا باهتمام منذ إعلان صاحبه انه بصدد كتابته، ليس فقط من أصدقائه- الكثيرين-،بل وكذلك ممن واكبوا مراحل تاريخ البلاد المباشر، والمتابعين والمهتمين بمسيرتها الإنمائية، ناهيك عمن كانوا لاعبين بمختلف درجات ادوارهم ومسؤولياتهم في ما اتُّخذ لتونس من خيارات استراتيجية منذ استقلالها، وما عاشته من أحداث وتحركات كبرى شكلت واقعها الراهن في امتداده االاقتصادي والسياسي والثقافي، وحددت ملامح وجهها اليوم.
ذلك ان المكي العلوي، زيادة على انتمائه الى الجيل الثالث من الدساترة المؤسسين المتحملين لدور تاريخي، فهو كذلك ذاكرة مرجعية لكل الذين عاشوا التجربة السياسية الوطنية منذ سبعينات القرن الماضي، وتسجيلٌ حي لمراحل مفصليّة من تاريخ البلاد ونضالات أبناءها من أجل تكريس التحرر وتحديد المصير وبناء الذات.
لكن كتاب “مسار وذكريات” ليس كتاب تاريخ. وحتى وإن حرص صاحبه على التثبت من التواريخ ومن اتّباع الجدول الزمني المواكب للاحداث الوطنية في تسلسلها وترابطها، فإن الأهم يبقى في النهاية القصة الشخصية للمكي العلوي (le récit personnel). وهنا أيضا يجب التوضيح، فالكتاب ليس سيرة ذاتية بمعناها الضيق، أي ان الكاتب والحاكي والشخصية الأساسية لا يجتمعون دوما في كتابه ولا يندمجون، بل هو في ظاهره سرد وفي عمقه بيان حول موقف مناضل دستوري من واقع بلاده الراهن، وهو في الاخير شهادة حقّ أراد المكي العلوي أن يتركها لعائلته المصغرة وعائلته الدستورية وللاجيال القادمة عموما، توضيحا، ودرسا، وعبرةً، وحجّة.
القيمة الأولى لكتاب “مسار وذكريات” تأتي من مسيرة صاحبه الاستثنائية، والتي يمكن، بمقياس واقع تونس اليوم، اعتبارها معجزة. وإلا كيف يمكن توصيف قصة شاب من أعماق بادية الوسط الغربي، يتيم الأم، تقليدي الثقافة والتكوين، يصل إلى أعلى المراتب السياسية والإدارية والديبلوماسية ويتربع لاكثر من نصف قرن على أرائك مجالس البلاد التشريعية يسنّ قوانينها ويرسم مستقبلها؟
الجواب مبثوث في كل صفحة من الكتاب: معجزة الايمان. المكي العلوي لا يشك لحظة واحدة ان الطريق الذي اختاره، والذي اختاره قبله ابوه، هو الطريق الصحيح، طريق بورقيبة، طريق الحزب الحر الدستوري، ثم الاشتراكي الدستوري، وصولا الى التجمع الدستوري الديمقراطي. المكي لا يرى الأحداث والشخوص والازمات والتطورات التي عاشتها البلاد منذ استقلالها الاّ بمنظار انتماءه الدستوري. هي أكثر من قناعة. هو معتقد. يحاول طبعا، في أكثر من موضع إخفاء أثره وتقديم بعض الشخصيات الخارجة عن الحدود المعروفة للرواية الرسمية للتاريخ الوطني، حين يزسم مثلا بإعجاب معلن شخصية صالح بن يوسف ممتطيا ظهر جواد في ربوع المكناسي، معقل اهل العلوي ومركز نفوذهم، ولكنك تكتشف سريعا ان الإعجاب لا علاقة له بقناعة سياسية مشتركة وإنما هو عرضي وعابر. وكذلك الأمر بالنسبة لأحمد بن صالح ومحد مزالي والباهي الادغم وغيرهم ممن وضعتهم الرواية الرسمية على الهامش. المكي العلوي يبقى جهازيّا (apparatchik) في تحليله وقراءته للأحداث منذ جلوسه على أول كرسي لأول خطة سياسية وازنة يتقلدها على رأس لجنة التنسيق الحزبي بقفصة، وصولا الى قطيعة 25 جويلية 2021 والتي يرى فيها تصحيحا لإعادة فرض دور الدولة.
والحقيقة أن كتاب “مسار وذكريات” هو كتاب تربية عاطفية (éducation sentimentale) لرجل ادرك مبكرا اهمية البقاء على مبدإ ما تعلمه من قيم وأخلاق في بيئة ريفية متأصلة جُبل أهلها على الكفاح من أجل الوجود الحر والكريم ّ على أرض يرفعها المكي العلوي الى مرتبة الشخصية الرمزية، كما في رواية المصري نجيب محفوظ. يتدرّج الكاتب في مسيرته من دور الشاهد على الكفاح من أجل التحرر والسيادة الوطنية التي رأى فيها اباه يلتزم حدّ الايقاف والتعذيب، الى الكفاح من أجل إعمار أرض “قمودة” وإلحاقها بركب التنمية الوطنية دون التنكّر لخصوصياتها وتقاليدها. ولعل المزية الاكبر للكتاب هو إبراز كاتبه لدور جهته في الوقوف ضد الاستعمار وانخراطها في الحركة الوطنية من أجل الاستقلال وتقديمها لجحافل من الشهداء. المكي العلوي يقدم هنا درسا بارعا في تساوي جهات البلاد في النضال الوطني ويقطع بالدليل انه لم يكن لجهة تونسية فضل على أخرى في النضال من أجل استقلال تونس وتحررها.
كُتب في لغة سهلة وفي أسلوب مباشر ، تلقائي احيانا، “مسار وذكريات” هو في ذات الوقت، وثيقة تاريخية لمن احتل لسنوات طويلة مكانا في الجبهة الأولى، وهو كذلك قصة العمر لرجل بقي وفيا لخياراته، وهو اخيرا صرخة قلب محبّ تجاه موطنه ووطنه.
*****
م
■”مسار وذكريات”: المؤلف المكي العلوي. الناشر :نقوش عربية. 280°صفحة. السعر 30د ت.
●الكاتب المكي العلوي ولد بمنزل بوزيان سنة 1944●استاذ مساعد في اللغة والآداب العربية●مجاز في العلوم الاقتصادية●عضو مجلس النواب● رئيس بلدية المكناسي. ●قنصل عام بجدّة(العربية السعودية).●سفير مندوب تونس بليبيا(1994-1998)● نائب اول لرئيس مجلس المستشارين (2005-2011)