من فضل التقاعد أن اتّسع وقتي للمتعة والاستفادة باسترجاع أشرطة وثائقيّة عن الكون والمصريّات وحلقات من متتاليات يوسف زيدان ومرايا ياسر العظمة. فمنها محاضرات “المجالس الحسنيّة” ومحاورات مع كبار علماء العربيّة والإسلام حول لغة القرآن وإعجازه البياني على درب البلاغة التي تبتدئ عندما يقف النحو لأنّ حدّه الإعراب لضبط المعنى ولأنّها أرقى منه في طلب الإقناع والتأثير بمراعاة ظروف المتقبّل ممّا نعبّر عنه بباطن الكلام ومقصد السياق وما بين السطور وما يزيد على المعنى. ومنهم مصطفى بن حمزة وعبد الله كنّون من المغرب، وعبد الله الطيّب وعبد المجيد الطيّب عمر وفرّاج الطيّب السرّاج من السودان، ويوسف الشبل من السعوديّة، وفاضل السامرّائي من العراق الذي منه أيضا أحمد القُبانجي المعترض عليهم على مذهب العلمانيين. وأغلبهم ارتقى إلى الرفيق الأعلى مخلّفا أثرا خالدا في شكل تسجيلات ومؤلّفات في منزلة الصدقة الجارية الجالبة للرحمة الدائمة.
ومنها يُستفاد أنّ علوم اللغة وظّفت لخدمة القرآن بمطلق الانحياز له وغاية تفضيله على منجز العرب الشعري والأدبي في إطار تمجيد العربيّة على أنّها عنوان الفصاحة والبلاغة والمثل الأعلى في البيان دون باقي اللغات إذ هي لغة آدم ولغة القرآن ولغة القيامة والآخرة.
وبناء عليه فإنّهم إذا وجدوا محذوفا مقدّرا بالنحو قالوا إنّه الإيجاز الذي هو البلاغة في لغة يتكلّمها ويفهمها الأذكياء إذ لا فائدة في ذكر المعلوم كقوله تعالى: “ما ودّعك ربّك وما قلى (…) ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالاّ فهدى ووجدك عائلا فأغنى” من سورة الضحى بدل “قلاك وآواك وهداك وأغناك” أي بذكر المفعول به وهو الضمير المتّصل بالفعل أو الكاف المفتوحة المناسبة للمخاطب المفرد المذكّر. وإنّهم إذا وجدوا تكرارا قالوا إنّه التوكيد كتكرار اسم “الله” في سورة الإخلاص وكلمة “الناس” خمس مرّات في سورة الناس. وإذا وجدوا تشبيها للأفضل بما دونه قالوا إنّه من تواضع الخالق لمخلوقاته كالتمثيل ببعوضة أو بمصباح حتّى بلغ ببعضهم التأويل إلى مقابلة النور الذي في المصباح الذي في الزجاجة التي في المشكاة بالإيمان الذي في القلب الذي في الصدر من جسد المؤمن، وكلاهما مصدر إشعاع ينير ما حوله بالنور حقيقة ومجازا على معنى الهداية، ومثل التشبيه المقلوب في القَسَم بأيّ شيء من الشمس والقمر والليل والنهار إلى الطور والكتاب المسطور فإلى التين والزيتون وغير ذلك دون فرق بين كبير وصغير بعكس المعلوم من شرط العظمة في المقسم به. أمّا الأعداد من مثل سبعة وسبعين وسبعمائة ومائة وألف فالمقصود بها الكثرة. وأمّا صورة الأرض التي دحاها والسماء التي بناها والنجوم التي هي لها زينة، وللشياطين رجوم، فأوّلوها كذلك لتستقيم فتدلّ على الإعجاز العلمي زيادة على الإعجاز العددي. وما غمض من القرآن على الصحابة في حضرة الرسول (ص) ثمّ على المفسّرين، مثل لازب وزنيم وسلقوم ودهاق وغسلين، صنّفوا فيه كتب الغريب على أنّه من الأحرف السبعة التي قد تكون بمعنى اللهجات. ومن ذلك أنّ قبيلة قريش تنادي بـ”تعال” وهذيل بـ”هلمّ” وتميم بـ”أقبل” و”عجّل”، وطيء تنزع إلى الترخيم فتحذف الحرف الأخير، وغيرها تستعمل الإمالة فتقرأ سورة الضحى مجرورة بالكسرة الطويلة بدل الفتحة الممدودة بالألف المقصورة هكذا: “والضّحي والليل إذا سجِي ما ودّعك ربّك وما قلِي ولا الآخرة خير لك من الأولِي…” إلخ.
وأحمد القُبانجي يرمي بكلّ هذا من مظاهر الإعجاز ناعتا الآيات بالحمقاء التافهة ومفضّلا فقرات ثريّة بالمعنى موزونة المبنى من “نهج البلاغة” للإمام عليّ (رض) على قوله تعالى كمثال: “ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمّهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمّاتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جُناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلّموا على أنفسكم تحيّة من عند الله مباركة طيّبة، كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تعقلون” (النور: 61). كان يمكن بل يحسن اختصار الحرج في مرّة واحدة هكذا: “ليس على الأعمى ولا على الأعرج ولا على المريض حرج” أو : ” لا حرج على الأعمى والأعرج والمريض”. وكذلك اختصار حرج الطعام في بيوت الأهل والأقارب والأصحاب. وهل ثمّة حرج في أن يأكل المرء من رزقه أو في بيوت ذويه، وهل عليه جُناح إن أكل منفردا أو مع جماعة؟ وكيف يسلّم على نفسه الداخل إلى بيته؟ وأخيرا: أهذه آيات للعقلاء؟ فلماذا يسكت العلماء عن هذا، ومثله كثير، وينتقون ما يوافق مرادهم ويدعم قولهم بألوهيّة التنزيل ويكفّرون من يدّعي محاكاته ويستقوي على بيانه؟
وحسبي هذا الحدّ من القول المحيّر حتّى لا أجاري قول المشكّك في أن يكون كلام الله كهذه النماذج من عيوب التعبير والتركيب والرسم والنطق ومن ورائها المعنى حتّى لا يبقى مبرّر لقول “الذين كفروا إن هذا إلاّ إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا (4) وقالوا أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا (5) قُل أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض إنّه كان غفورا رحيما (6)” (الفرقان).
لكلّ هذا تجنّبتُ البلاغة بفروعها واللغة بعلومها على الجملة وتخلّيتُ عن نظريّة الإعجاز بأنواعه على التفصيل فيما نشرتُ بهذه العناوين : “حيرة مؤمن مع القرآن”، “وقفات على آيات”، “ألفبائي إسلاميّاتي”. وكفى بالعقل سبيلا إلى المعنى في لسان عربيّ مبين.