بكلّ أسف وألم، بل بكلّ حزن ويأس، أجد نفسي اليوم، وبعد خمسين سنة من الإنتاج وخمسين كتابا منشورا وثلاثين مخطوطا، أجدني مجبرا على التوقّف لأنّه لا فائدة في كتابة بلا نشر، ولا في كاتب بلا قارئ. وفي هذا الصباح بالذّات، كشف لي صديقي الناشر عن قائمات طويلة في النسخ الراجعة من المكتبات إليه ومنها كتب حديثة الصدور، لم تمرّ عليها ثلاثة أشهر، فلا البائع يصبر على مزيد إيداعها عنده، ولا الناشر يجد متّسعا لحفظها في منزله أو في مخزن مأجور، كالسلعة البائرة، إلاّ أن يتخلّص منها بسعر الكيلو من الورق. وأغرب من هذا أنّه، فيما حدّثني به للمشاركة في الأسف والألم والحزن واليأس، أنّه في معرض باع نسخة من كتاب في التاريخ التونسي فرجاه الشاري أن يلفّه في كيس بلاستيك حتّى لا تحرجه الأنظار في المترو، وربّما يصوّره أحدهم خفية ليتبادل بالصورة “الإعجابات” على أنّه بقيّة ذلك الجيل “الورقيّ” كتابة وقراءة، أو ربّما يعلّق أحدهم: “مازالت البركة !” وغيره قد يقول: ” أين يعيش هذا المخلوق ؟”
هكذا فهمنا التكنولوجيا والحداثة على أنّهما ضد ّالكتاب، وربّما عكس الثقافة بصورة عامّة. وبالتالي قتلنا خير جليس وخير أنيس، وفسحنا المجال للوسائط الإلكترونيّة بصفتها عنوان التقدّم وأداة التواصل. وما هكذا فهم مصنّعها الأمر والوضع، بدليل أنّهم جعلوها في خدمة الكتاب الذي هو الأصل والمرجع على الدوام، بل هو مزوّد المواقع على شبكة الإنترنت وغير ذلك، ومزوّد البرامج والتحقيقات الإذاعيّة والتلفزيّة أيّا كان الموضوع المدروس أو المطروح للنقاش.
أقول هذا وأستنكر بدعة الكتاب الإلكتروني، بل أراه كذلك البحر المنعوت بحمار الشعراء لقدرة من هبّ ودبّ على ركوبه، أي على النظم على وزنه، حتّى لا يظهر فرق بين شاعر فحل وشويعر مبتدئ. وفي نفس الوقت لا أطمئنّ إلى أيّة معلومة فايسبوكيّة مادام المجال متاحا للجميع والباب مفتوحا على مصراعيه حتّى لمن يقتبس أو يسرق كلام غيره أو يشحن صفحته بالأكاذيب والأخطاء تبعا للتسرّع ورغبة في السبق.
وكم يؤسفني تأخّر التونسيّين والعرب في الترتيب العالمي للمطالعة حيث تتصدّر القائمة الولايات المتّحدة الأمريكيّة بحكم عدد السكّان، وتتلوها إسرائيل، هذا الكيان المغروس بالقوّة والقهر في غير أرضه والمستولي على حقّ غيره في الحياة والوجود. ومعرض الكتاب في القدس، كمثال، سوق دائمة للمنشورات بمختلف اللغات، وأكثرها ترجمات عبريّة. هكذا يعتني “عدوّنا” – بالصفة الصهيونيّة لا اليهوديّة- بالثقافة وخصوصا بالكتاب، لبناء الفكر والذات والهويّة في الشباب وفي كافّة المواطنين. وهكذا يبني حاضره لأجل مستقبله ويؤسّس أجياله القادمة. وأحسبه فرحا مسرورا بتخلّفنا الثقافي والتعليمي وعزوفنا عن الكتاب والمطالعة.
فلا عجب إذا تكاسلت أمينة المكتبة العموميّة في حيّ عصريّ بالعاصمة أو في الجهات الداخليّة عن رفع الكتب الجديدة الواردة عليها من إدارة المطالعة العموميّة إلى الرفوف مصنّفة ومرقّمة. ولا غرابة إذا اتّخذت زميلتها من المكتبة قسما لمجموعة تلاميذ المدرسة المجاورة مقابل أجرة دروس المراجعة بما أنّه لا أحد يأتيها طالبا كتابا. وأكثر العجب والغرابة أن تعمد إحدى المديرات إلى حفظ الرفوف في جانب من قاعة المطالعة لفسح المجال لصفوف الكراسي على صورة قاعة الأفراح لعروض بعنوان التنشيط الثقافي أو لندوات ومحاضرات. والجواب لكلّ متعجّب ومستغرب أنّ هذا النوع من العمل هو أيضا ثقافة وهو أفضل لملء الفضاء من ترك القاعة العامرة بالكتب خالية من القرّاء. والاستثناء الوحيد أن يقصدها بعض التلاميذ للمراجعة لا للمطالعة بما أنّ المدارس والمعاهد لا تخصّص قاعة للرّاغبين في إعداد دروسهم ولا تحفظهم من الشارع الخطير. ولا حرج عندئذ عندما تجمع طاولة المكتبة، وفي كنف الأمن والستر، قيسا وليلاه للكلام الجميل والطعام الخفيف وبينهما كرّاس مفتوح اتّقاء الشبهة المحتملة. ولهذا فالمكتبة خير من المقهى وكلفة القهوة .
فما العمل إذا ؟ واجب وزارة الثقافة دعم الكتاب عن طريق الناشرين مع الحدّ من تشجيع النشر على نفقة المؤلّف، وذلك للمحافظة على المستوى طباعة ومحتوى، وإقامة معارض للكتاب التونسي على هامش الملتقيات والمهرجانات، والضغط على تكاليف إنتاج الكتاب وسعره، والتكفّل بترويجه في الداخل والخارج بواسطة شركة توزيع بناءً على تجربة سابقة باسم الشركة التونسيّة للتوزيع والشركة التونسيّة للنشر. وواجب الصحافة المكتوبة والإذاعات والتلفزات، خاصّة منها الوطنيّة، التعريف اليوميّ بالإصدارات الجديدة. وواجب وزارة التربية تطوير المناهج وتكثيف حصص المطالعة وإثراء مكتبات المدارس والمعاهد وتشجيع الكتّاب التونسيين بمناسبة الجوائز المدرسيّة. وواجب وزارة النقل تخفيض معلوم الحمل. وبقيّة الحلول تعرضها لجنة مشتركة على مجلس وزاري.