ليعلم من شاء أن يعلم، ويستغرب من يجد في أمري غرابة، أنّي وفيّ للقلم والورق، وفي مأمن من “الفيسبوك” حذر إضاعة الوقت، وأنّ آخر ما أفكّر فيه أن أتّخذ موقعا إلكترونيّا لعرض بضاعتي الكتابيّة وأنا الذي استأجر لرقنها غيري رأفة ببصري.
أعترف بهذا التخلّف. وإنّي به لسعيد. ولا أخشى لومة لائم فيما أنا مقتنع به إن زهدت أو تحمّست. وحسبي من الحاسوب البريد الإلكتروني والأشرطة الوثائقيّة وبعض الأعمال الدراميّة والموسيقيّة بفضل” قوقل”. تابعت محاضرات يوسف زيدان في الإسلاميّات واليهوديّات، وتابعت سلسلة قطار ليس كغيره، ومثلها سلسلة القصور الفرنسيّة، وتجوّلت بين العواصم عبر الوثائقيّات إكمالا لمطالعاتي فاستمتعت واستفدت. وبنفس المتعة تابعت حلقات من سلسلة مرايا بإبداع ياسر العظمة وحسن دكّاك مع نجوم التمثيل السوريين. وبنفس الفائدة تابعت علماء المصريّات دون الوصول إلى حقيقة مقنعة في شأن الأهرامات وأبي الهول والسيرابيوم والمسلاّت. وبتعويض المتعة بالخوف، والفائدة بالحيرة، تابعت الأشرطة العلميّة المتعلّقة بالكون ويدي قابضة على المصحف، وقلبي خافق راجف بين العلم والإيمان بدءا باكتشاف إيف كوبنس (Yves Coppens) لأمّ البشر التي اختار لها اسم لوسي (Lucy) من أغنية مشهورة صادفت ساعة الاكتشاف.
وإذ ثقل عليّ العلم الواسع وأرّقني القلق الوجودي نجوت بنفسي إلى الموسيقى، من المالوف والموشّحات إلى السمفونيات فإلى كوكب الشرق بألحان السنباطي. وما أنا مواظب عليه منذ أيّام بشكل من الإدمان السليم والجميل، بل المنعش والمريح، تلك القطعة المشهورة بـ “رقصة الأطلس” للفنّان المغربي المبدع عبد القادر الراشدي، رحمه الله. وأحسن تسجيلاتها حفلة الرياض سنة 1979 أمام جمهور سعوديّ ذوّاق للطرب الأصيل. وليس بعدها إلاّ القرآن الكريم ختاما ليوم مرهق بالمشاغل أو منغّص بالإكراهات. ولعلّ قائد الفرقة هو نفسه ملحّن القطعة بدليل شعوري بأنّ الأنغام وإن كانت تعزفها الآلات فإنّما تنبعث من حركات يديه وإيماءاته برأسه وعينيه، وهو في منتهى الثقة في النفس والهدوء في الأداء والانسجام مع اللحن في تطوّره من الوزن البطيء إلى الإيقاع السريع. وليس كمثله أحد فيمن شاهدت من قادة الأركسترا الذين ينتابهم التشنّج ويبالغون في الحركة حتّى تهتزّ شعورهم بارتفاع عصيّاتهم. وأستثني منهم أندري ريو (André Rieu) الذي آثر الهمس الساحر وهو يقود فرقته الرائعة بعازفيها ومغنّيها وراقصيها من الجنسين ويعزف على كمنجته الناطقة ويتواصل مع الجمهور الكبير مقدّما الفقرة تلو الفقرة بنكتة وبسمة. فكيف لا أحبّ روائع يوهان ستراوس (Johann Strauss) ؟
أين فنّانونا في الموسيقى والمسرح من كلّ هذا؟ هؤلاء عابرون، وأولئك خالدون، والفرق شاسع بين الفنّ والمادّة بقدر ما بين السماء والأرض أو ما بين التبر والتراب. فكيف لا أتأسّف على غياب الإبداع مع حضور المال في بلد الثلاثة آلاف سنة حضارة ؟ إنّها الشهرة القاتلة للمنتج إذا أصبح يروّج عمله بالاسم، لا بالقيمة. وحدّث ولا حرج عن المتمعّشين من التراث بدعوى التهذيب حيث المفروض استلهامه وإثراؤه. وكذلك السرقات الفنّيّة كالسرقات الأدبيّة لا بدّ أن تنكشف ولو طال الزمن لنتفطّن إلى أنّ سبب اشتهار هذا أو ذاك ليس بإضافة جديدة بل بملك الغير، إن من هذا البلد أو من ذاك القطر الشقيق ما دام الرزق الذي مات أهله مباحا. ومنه مقطوعتان رائجتان في العالم بغير اسمي صاحبيهما الحقيقيين: “جاري يا حمّودة” و”سيدي منصور”، والبقيّة من تراث الكاف العالي زينة الأفراح والمحافل. ولا أسمّي أحدا أو واحدة من باب الاحترام بما أنّ المعرفة لا تعرّف كما يقال في اللغة وفي الحياة، وحدّي القول المأثور على وجه النصح: ” عاش من عرف قدره فوقف عنده”. وهكذا الحديث ذو شجون، كما يقولون.