بقلم عبد الجليل المسعودي
يقال إن الفيلسوف الالماني كانط Kant، والذي كانت حياته مضبوطة ودقيقه كالسّاعه، لا يتخلف أبدا عن جولته الصباحية التي كان يقوم بها في غابة محاذية لمنزله في مدينه كونغزبورغ، حيث كان يتفرغ للتفكير والتأمل.لكن حدث مرّة -مرّة واحدة- أن توقف الفيلسوف عن القيام بجولته واكتفى بالسير بضع خطوات. كان ذلك يوم بلغته اخبار قيام ثورة 1789 الفرنسية. يومها اقتصر على القيام ببعض خطوات عاد بعدها الى مكتبه وهو يقول بأعلى صوته ” لقد وجب التوقّف عن كل نشاط غير الوقوف تقديرا واجلالا لما فعله الشعب الفرنسي”.
انا لا أكاد أشكّ لحظة في تكرار الفيلسوف الألماني -لو كان حيّا- لوقفته التاريخية إجلالا واكراما وهو يشهد هبّة نفس الشعب الفرنسي لقطع الطريق امام اليمين المتطرف و تسفيه أحلامه العنصريه في لحظه قطيعة سياسية فارقة.
أمس تكلمت الديمقراطيه عبر صناديق الاقتراع و أفصحت عمّا يجيش في ضمير وعقل ووجدان الشعب من حقيقة رفضه الصّارم لحزبٍ يريد ان يحكم فرنسا بممارسه التفريق بين مواطنيها على أساس المعتقد أو لون البشره أو الأصل الجغرافي، متنّكرا بذلك لمبادئ الحرية والمساواة التي بنيت عليها الجمهوريه.
امس قدمت فرنسا درسا في قدرة الشعوب على قلب الموازين وتكذيب اي نتيجة مسبقة في العمل السياسي مهما كانت الحسابات المخفية والمعلنة لفرض قبولها وكانها قدر حتمي. لقد كان حزب “التجمع الوطني” غداة الدور الأول من الانتخابات التشريعية على أبواب الحكم، وكان زعماؤه يستعدون لتولي المناصب الحكوميه التي تتيح لهم فرصة تنفيذ مشروعهم العنصري المتمثل في التفضيل القومي و رفض حق الاختلاف. وفجأه حصل ما لم يكن متوقّعا وأعطى الشعب ثقته ل”لجبهه الشعبيه الجديدة” ومكنها من تحقيق “ريمنتادا” انتخابية تاريخية وكذّب أحلام العنصريين، وخفّضت رتبتهم، وابعدتهم عن الحكم، ولو الى حين.
انه درس رائع في أن الوعي والثقافه يبقيان درع الشعوب الأمتن والأقوى ضد اغراءات التطرف وانزلاقات الشعبوية.،
وإن ما قام به الشعب الفرنسي لكبح جماح اليمين المتطرف ليستحق ان تقف له دول العالم تقديرا وإجلالا، ومنها بلادنا التي يعيش ما يقارب المليون من أبنائها على أرض فرنسا، ما يجعل منها بلد التونسيين الثاني.