الموسيقار د. محمد الڤَرفي
مقال نشرناه في “الزمان” اللندنية عام 1998 بعنوان “إدمان” إثر إذاعة حوار تلفزيوني مع الكاتب الفنلندي هاري موليش الذي قدّم نفسه أنه من أم يهودية. ورأينا اليوم بعد قرابة الثلاثين سنة من كتابته أنه يستحق الاستذكار في ظل ما يجري من أحداث متلاحقة في غزة ولبنان ومراوغات دول الغرب المتصهين.
قال هذا “المفكر العبقري” بكل وقاحة:
“أعطوا كل عربي سيارة مرسيدس وثلاجة وإنترنت تنتهِ حربهم مع اليهود” (كذا) واختزل بهذا التغبير آلام العرب وقضاياهم المصيرية في هذه المصنوعات وربما منعه الحياء المتصنع أن يضيف: زيدوهم ويسكي ونساء جميلات تأمنوا شرهم إلى يوم يبعثون.
لقد حق للغرب اليوم أن يختزل ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا في حاجيات محدودة يجود بها علينا حين يشاء، وبمقدار. فقد استطاع بجرة قلم أن يعزلنا عن تاريخنا القريب والبعيد وأن يمحو من ذاكرتنا معالم النخوة والاعتزاز وأن يكرّس فينا عقدة ذنوبه لندفع فاتورة جرائمه حتى صرنا نتجنب ذكر رموزنا البطولية وترديد أشعارنا الوطنية بالمناسبة، وتحت العباءة رفقا بحساسيته المرهفة وخوفا من غضبه المُجهِز.
وإذا اقتضى الأمر نكرّم أمواتهم الصهاينة بأموالنا ونئد أحياءنا بأموالهم لنؤكد لهم ولحُماتهم أننا نحبهم حبا جما وملتزمون بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته خيارا استراتيجيا ولو على رقابنا.
سيد درويش ارتبط بثورة 1919 المصرية وهتف الشعب معه ملئ الروح والقلب (بلادي لك حبي وفؤادي) في زمن كان رصاص البريطانيين يُزرَع مجانا في صدور المتظاهرين مثلما يُرش الماء في حدائق الباشوات.
روائع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وصوت فيروز ارتبطت بتاريخنا الحديث بدءا من النكبة حتى كل الانتكاسات الرهيبة ورافقتنا نصف قرن -ولا تزال- طودا شامخا تقرع أجراسه (الآن الآن وليس غدا) فتعيد الأمل إلى النفوس حين يكون اليأس قد أماتها.
أناشيد الثورة المصرية التي هدهدت أحلامنا وأيقظت سباتنا صرخةً للحق (يا ويل عدو الدار) في وجه المغتصبين فرفع العربي رأسه بعد أن كان مطأطأ تحت أقدام الإقطاع والاستعمار. وحتى وإن لم تحقق كل الغايات، فذلك أضعف الإيمان.
كل هذه الأعمال الكبيرة الخالدة وغيرها مما يعسر حصرها في الأقطار العربية أصبحت اليوم كمثل الزوايا والتكايا، قبورا وتوابيت تُزار عند النكبة أو للترحم على أرواح الشهداء -بمن فيهم الأحياء- الذين أضاعوا الرشاد في ساحة النضال، وما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال!
هذه العبر صارت اليوم لا تعنينا في شيء وصارت صور الإرهاب والإبادة التي تمارس ضد شعبنا العربي في فلسطين وفي كل مكان وصور الأطفال والنساء الذين يموتون يوميا من أوبئة الأسلحة التي جُرّبت فيهم فصحّت طَبَقا إلزاميا نلتهمه مع وجباتنا اليومية على موائد الإفطار والغداء والعشاء مشدوهين أمام مغنطيس الفضائيات الفضفاضة وهي تقدمها بابتسامة حِرفية باهتة وتشفعها بالمقابلات الرياضية واستعراضات الموضة..
وحالة الطقس اليوم وغدا إن شاء الله.
إن الذين تغنوا بفلسطين وبقضايانا المصيرية صاروا مشبوهين، منبوذين، كمن ارتكب إثما أو اقترف جُرما، وفي أحسن الحالات مثاليين متخلفين عن مسار التاريخ الحديث كما تراه عيون عمياء تلبس نظارات العمالة.
ومرة قال لنا أحد هؤلاء، ممن ركبوا حصان السياسة بدون سرج: إن بعض الموسيقيين العرب تجاوزتهم الأحداث ولم يتفطنوا بعد أننا نعيش عصر السلم وأن كل أناشيد الحماسة والعروبة يجب أن تركن في مخازن التاريخ. إنه لمن المضحك حقا أن يرددوا اليوم (أصبح عندي الآن بندقية) أو (عاش الفن حضارة يبنيها الفنان) أو (انهض للثورة والثأر), نحن بحاجة إلى الضحك من الأعماق و”الفرفشة” المنعشة حتى نبني الإنسان العربي الحديث! (انتهى المصدر المشبوه).
ولقد تفشى هذا الرأي المهزوز كالنار في الهشيم بدعم أكيد من أشباه الموسيقيين العرب، المخدرين بأموال البؤساء، الخادمين لكل سلطان وجاه، المتربصين لامتطاء القضايا المصيرية بدعوى التعاطف الإنساني وجمع التبرعات الخيرية.
فحتى الأناشيد الوطنية التي يضعونها اليوم صارت تُدق على الوحدة ونص وتولول فيها زغاريد الأعراس، أو بكائيات تزيد الهم غما، وهي في شكلها العام لا تختلف عن القوالب التي يستعملونها في غير هذا المجال. أما الأغاني التي توقظ المشاعر الوطنية حقا وتحدد القضية هدفا فقد صارت أعمالا نخبوية نادرة تحفظ ولا يقاس عليها ويُستنجد بها قسرا لضرورة المتابعة الظرفية.
فما من مصيبة إلا وترى الذين كانوا بالأمس يُلهبون المطاعم والملاهي الليلية وينتشون بأموال السكارى على موائد اللئام قد التحفوا ثوب الحداد وتمنطقوا بالسواد ووضعوا الكوفية والعُقال وتجندوا صفوفا ليعلنوها مناحة يستدرّون بها بكاء القابعين في بيوتهم، العاجزين عن استدراك كرامتهم المهدورة، وكأن البكاء صكٌ على بياض لتوبة موقوتة يغسلون بها خياناتهم ويشترون بها الجماهير بعد أن باعوها على طاولة الانبطاح والتملق، أو رتقٌ لثوب الكرامة المقعور بعهرهم وعمالتهم.
وفي غفلة من الزمن تتحول الأمة إلى مجموعة ندّابات محترفات يتمرغن على أعتاب الأسياد عسى يفُزن برضاهم المقيت، ولا الضالين، آمين.
وما أن تمر الزوبعة حتى يتغير اللِبس ويعود اللُبس في انتظار مصيبة أخرى يجددون فيها البيعة للنواح ويضمنون مستقبلهم, وهكذا دواليك إلى أن ترث إسرائيل فلسطين ومن عليها.
صمتا يا هؤلاء.
فلسطين ليست في حاجة إلى عويلكم ولا شعبها في حاجة إلى غنائكم المُحبط للعزائم ولا شهداؤها في حاجة إلى بكائكم, ليست في حاجة إلى الولائم التي تقيمونها على نخبها ولا لبعض الديانق التي تتبرعون بها من صدقات مال المغيّبين ولا لرسائلكم المضحكة المبكية التي تمرّرونها تحت الطاولة إلى أسنادكم من بني صهيون.
إنها في حاجة لكي تكفوا عن الصهيل والرُغاء، أن تستكينوا إلى صمتكم المعتاد، أن تركنوا إلى بيوتكم المكيفة، أن تهنئوا في نعيم خوفكم، فلفلسطين رجال تعلموا أن النضال في الميدان ولا يمارس بالمناسبة وأن السلم لا تأتي بدون حرب وأن الحرب سجال لا يخوضها سوى من تهيّأ لها.
والخزي والعار للعملاء والخونة.