من الأغاني التي كان أطفال الحاضرة من جيلنا يرددونها أثناء أدائهم لعبة “غُمّيض غُزلان” دون إدراك معناها:
عَسْكْرِي يَا عَسْكْرِي يَا خْدِيمِ الْبَيّْ،
اِلْمُكْحْلَة (البندقية) وِالسِّنْڤِي (الحربة) فُوقِ الْكَنَبَيّْ (الأريكة)،
أمُّكْ عَيْشَة تِبْكِي تَغْسِلْ فِي الصَّابُون،
قَالِتْ وِلْدِي وِينُه قَالُوا لْهَا فِي سْطَمْبُولْ،
آشَ عْشَاكِ الْبَارَح أشَ عْشَاكِ الْيُومْ،
قَزْدْرِيَّة مَّالَحْ وِشْطَرْهَا لِيمُونْ.
ويبدو أن هذه الترنيمة المعبّرة هي من رواسب حرب القرم (1853-1856) التي خاضتها الإمبراطورية العثمانية زمن السلطان عبد المجيد الأول ضد روسيا القيصرية في شبه جزيرة القرم وساندتها الإيالة التونسية بالعساكر والبغال. فقد أرسل المشير أحمد باشا باي (1806-1855) عام 1854 جيشا قوامه 14000 جندي -بتقدير ابن أبي الضياف- يقوده خرّيجون من المدرسة الحربية وهم الجنرال رْشِيدْ والجنرال عُصمان والجنرال محمد الشاوش.
والجنرال رشيد هو مملوك شركسي من جورجيا الروسية تربّى في بيت الوزير سليمان كاهية ثم احتضنه حسين باي الثاني (1784-1835) بعد وفاة الوزير وتربى مع ابنه حمّودة. بعد ذلك التحق بالجيش النظامي وبالمدرسة الحربية بباردو التي أسسها أحمد باي عام 1837 حيث تلقى تكوينا عسكريا عصريا ومعارف أخرى ذات الصلة مثل الهندسة والجغرافيا وأصول الصناعة العسكرية.
وبعد سنوات من رجوعه من الحرب وأداء مهمته ببسالة اتهمه الأمير محمد الصادق باي ظلما بالتآمر ضدّه فدعاه إلى قصره بباردو وأمر بقتله خنقا عام 1867. وقد تمّ دفنه ليلا في زاوية السيدة المنوبية قرب باب الجزيرة.
1856: عودة الجيش التونسي من القرم واستعراضه بقيادة الجنرال رشيد
لوحة الرسام Auguste Monier (1813-1865)
وتحتفظ الذاكرة الشعبية بترنيمة تُنسب إلى عساكر هذا الجيش المتحمس للقتال كانوا يرددونها أثناء إبحارهم إلى إسطنبول على متن أسطول من سفن حربية تونسية الصُنع.
وتُبيّن الأغنية في بدئها العزيمة القتالية التي يتحلّى بها الجنود التونسيون وتسخر في المقابل من جيش العدو وتقلل من قيمته:
عَسْكَرِ الطُّبْجِيَّة، سْناجِقْهُمْ مِذْرِيَّة
عَبْدِ المجيدِ تْهيَّا، للحربِ والنِّزالْ
أمان أمانْ (بالتفخيم التركي)
عَسْكَرِ المَحْكُوكَة، راكْبِينْ في فْلُوكَة
طَارُ وْدَرْبُوكَة، وْقَايِدْهُمْ طَحّانْ (ديّوث)
أمان أمانْ
خاضت الجيوش العثمانية بسند من ألوية تونسية ومصرية وجيوش من الدول الحليفة (فرنسا وبريطانيا ومملكة سردينيا) معارك شديدة الضراوة ضدّ القوات الروسية خاصة حول قاعدة سيباستوبول البحرية فانتصرت عليها وبسطت سيطرتها على شبه جزيرة القرم.
انتهت الحرب في شهر فبراير 1856 بانتصار إمبراطورية الخلافة على إمبراطورية قيصر وقتل أثناءها حوالي سبعمائة ألف جندي من الجانبين هلك معظمهم بوباء الكوليرا، في حين فقد الجيش التونسي بضعة آلاف من ترسانته العسكرية ونجا عشرة آلاف من جنوده.
عاد الناجون من الحرب إلى إسطنبول ومنها إلى تونس بينما فضّل بعضهم البقاء في تركيا فأهداهم السلطان العثماني جزاء استبسالهم في الدفاع عن المواقع التركية قطعة أرض في محافظة قسطمونة قرب أنقرة استقروا بها وأطلقوا عليها اسم “تُونُوسْ لارْ”.
وفي رواية أخرى أن إحدى الوحدات العسكرية تاهت الطريق وانعزلت عن باقي كتائب الجيش فاضطر أفرادها إلى التوقف في منطقة جبلية والاستقرار هناك نتيجة لتردّي الأوضاع الجويّة وكثرة تساقط الثلوج. وقد تزوجوا من نساء المنطقة التركية وأسسوا قرية خاصة بهم تحت اسم تونوس لار وتعني باللغة التركية قرية التونسيين.
تقع القرية بالشمال الشرقي لتركيا بين المرتفعات والجبال على بعد مائتي كلمترا من العاصمة أنقرة وعلى ارتفاع ألف وأربعمائة مترا فوق سطح البحر. ويبلغ تعداد سكانها اليوم مائتين وخمسين نفرا يعتزون بأصولهم التونسية ويحافظون على التقاليد الموروثة عن آبائهم وأجدادهم.